صاحب الجلالة الملك محمد السادس يوجه رسالة سامية بمناسبة انطلاق الموسم الدراسي الجديد

الرباط يوم 12/09/2000

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
شعبي العزيز
يسعدنا أن نخاطبك اليوم في موعد حاسم من مسيرة البناء المتواصل لمغربنا الديث موعد الدخول المدرسي لهذه السنة الذي يحمل دلالة رمزية خاصة وبعدا تاريخيا متميزا لأنه أول موسم دراسي في العشرية التي أكدنا في خطاب العرش الأخير على إلعانها عشرية خاصة بالتربية والتكوين وثاني أسبقية وطنية بعد وحدتنا الترابية.
وتعبيرا من جلالتنا عما نوليه لهذه المسيرة التربوية من عناية فائقة فقد استقر نظرنا السديد على أن نجعل من موعد افتتاح الدخول المدرسي ''يوما وطنيا للتربية والتكوين'' سنحرص جميعا على إحيائه كل سنة تحت شعار ''الاجتهاد'' وهو شعار نريد له أ يتجسد بشكل ملموس في من خلال مفهومنا العلمي للاجتهاد المستمد من مرجعيتنا الاسلامية ومن حمولته الفكرية بوصفه جهدا فرديا ومجهودا جماعيا يوميا متواصلا وهادفا يتوقف عليه النجاح في بلوغ كل غاية نبيلة ومن تم فهو ذو بعد زمني عميق يندرج ضمن السيرورة التاريخية لتقدم بلادنا وتحقيق نهضتها الشاملة .
لقد اعتبرنا أن خير مانفتتح به الموسم الدراسي هو إطلاق مبادرتنا السامية بفتح المساجد لانجاز برنامج دقيق ومحكم يهم دروس محو الأمية وذلك في إطار ما دعونا إليه من ضرورة تفعيل كل الوسائل الممكنة وتجنيد مختلف الطاقات والفعاليات للعمل الحازم من أجل القضاء التدريجي على هذه الآفة التي لايليق استمرار وجودها مع المكانة المشرفة التي نتطلع إلى أن تحتاها بلادنا بين الأمم الراقية إن التعبئة التي نتظرها من الجميع للانخراط في أوراش إصلاح نظامنا التربوي يتعين أن تكون منظمة وخاضعة لتدبير محكم يركزها حول أهداف محددة ومضبوطة تتجه نحو الأولويات وتسهر على الانجاز الملائم مع اتخاد الاجراءات العملية القمينة باحترام المواعيد التاريخية التي حددها الميثاق الوطني للتربية والتكوين كمحطات بارزة في سيرورة ذلك الاصلاح ولا سيما منها موعدنا مع سنة 2002 حيث يتعين أن يجد كل طفل مغربي بلغ من العمر ست سنوات مقعدا في السنة الأولى من المدرسة الابتدائية القريبة من إقامة أسرته مع مراعاة الظروف الخاصة بالعالم القروي لتمكينه من نفس حظوظ العالم الحضري وكذا تشجيع تمدرس الفتيات بشكل متساو مع تمدرس الفتيان وذلك حتى يتسنى لنا أن نترجم على أرض الواقع وبشكل ملموس تعميم التعليم بالنسبة للأطفال من 6 سنوات إلى 15 سنة نافذة دون أن ننسى التأكيد على ما نوليه من فائق عنايتنا للأطفال الذين يوجدون الان خارج المنظومة التربوية لسبب من الأسباب وذلك بمنحهم حق الاستفادة من التربية غير النظامية وإعطائهم فرصة للاندماج من جديد في المنظومة التربوية أو تهييئهم لولوج الحياة العملية.
وفي ارتباط مع سهرنا على تنفيذ هذه المهام سيكون لنا موعد آخر مع تعميم التسجيل بالسنة الأولى من التعليم الأولي في أفق سنة 2004 بهدف التحقيق الفعلي لتكافؤ فرص الجميع في الاكتساب المبكر لمؤهلات النجاح في متابعة الدراسة علما بأن الدولة ستركز دعمها المالي في هذا الميدان على المناطق القروية والشبه حضرية وبصفة خاصة على المناطق السكانية غير المحظوظة عملا بمبدأ التمييز الايجابي الذي تعمل به الدولة الفاضلة.
ونحن على موعد كذلك ابتداءا من هذه السنة مع بلوغ الهدف الأسمى لمنظومتنا التربوية والمتمثل في تحقيق جودة التربية والتكوين في مدرسة متعددة الأساليب وفي نفس الوقت موحدة الأهداف والغايات ملائمة لحاجات الأفراد وواقع الحياة ومتطلباتها وذات هيكلة تربوية قوامها الجذوع المشتركة والتخصص التدريجي والجسور على جميع المستويات وببرامج ومناهج ملائمة ووظيفة تستجيب لخصوصيتنا الحضارية وتواكب في نفس الوقتكل جديد في ميدان المعرفة والعلم والتكنولوجيا. وكذا بنظام عصري للتقويم يتصف بالمصداقية والموضوعية والانصاف ويوفر حظوظا متكافئة للجميع على أساس المنافسة الشريفة والاستحقاق.
وعلاقة بذلك سنقوم بتطوير آليات التوجيه التربوي والمهني بجعلها وظيفة للمواكبة وتيسير النضج وملكات المتعلمين واختياراتهم التربوية والمهنية وإعادة توجيهه كلما دعت الضرورة إلى ذلك مع حرصنا الدائم على مراعاة أولويات وحاجات بلادنا الانية والمستقبلية من الأطر والتقنيين في مختلف القطاعات والمجالات حتى نقلص تدريجيا من بطالة المتعلمين.
وعلى نفس النهج سنعمل على إرساء جامعة مغربية متفتحة تتمتع بالاستقلال الذاتي والتسيير الديمقراطي المسؤول وبحسن التدبير مؤهلة لأن تكون قاطرة للتنمية ومرصدا للتقدم الكوني العلمي والتقني وقبلة للباحثين الجادين من كل مكان ومختبرا للاكتشاف والابداع.
وفي هذا السياق فاننا ننتظر من جامعتنا والأطر العاملة بها السهر على إعادة هيكلة المؤسسات الجامعية وضمان حسن تدبيرها وتحقيق جودة أدائها مع الحرص على إشراك جميع الفاعلين المعنيين في إنجاز هذه المهام وذلك في غضون السنوات الثلاثة القادمة.
على أن ذلك كله لا ينبغي أن يجعلنا نغفل المواعيد والاستحقاقات الأخرى التي حددها الميثاق وهي تلك المتعلقة باقرار اللامركزية واللاتمركز في قطاع التربية والتكوين وضمان تسيير محكم لمختلف المؤسسات التعلمية وتفعيل دور آباء وأولياء التلاميذ في تدبير الحياة المدرسية بوصفهم شركاء أساسيين في تعليم وتربية أبنائهم على امتداد مسارهم الدراسي وكذا تشجيع التعليم الخاص وضبط معاييره وتسييره.
ولا حاجة للتأكيد على أن الإطار الذي سيعطى للالتزام بتنفيذ هذه المواعيد نستقيه ومدلوله العلمي كما سيمنح لتحقيق الأهداف المنتظرة من الاصلاح فعاليتها ومغزاها الحقيقي يتمثل في إرساء مدرسة مغربية جديدة قوامها جعل المجتمع المغربي يتفاعل مع مقومات هويته وثوابت مقدساته التي يجليها الايمان بالله وحب الوطن والتمسك بالملكية الدستورية الديمقراطية الاجتماعية مع انفتاحه في الآن نفسه على معطيات الحضارة الانسانية العصرية بما فيها من آليات وأنظمة تكرس حقوق الانسان وتدعم كرامته. كما أن غايتها هي الاستجابة لمتطلبات العصر واتمام بناء مغرب دولة الحق والقانون والحداثة والتقدم.
شعبي العزيز ..
هكذا يتبين لك أن إصلاح منظومتنا التربوية هو ورش كبير ومصيري بالنسبة لبلادنا انطلاقا من قناعتنا الراسخة بأن التربية هي قاعدتها الاساس لترسيخ قيم اجتماعية قوامها الاعتدال والوسطية والتحلي بروح المواطنة الصادقة المبنية على الممارسة الديمقراطية المسؤولة ودرعها الواقي من كل أشكال الانزياح نحو التطرف أو التزمت فضلا عن كونها السبيل الكفيل باعداد موارد بشرية مؤهلة وكفأة من شأنها أن تزود مجتمعنا بثروة ثمينة لا ينضب معينها.
ومهما كان حجم الثروات الطبيعية التي حبا الله بها هذا البلد الأمين ومهما كانت أهمية اسهامها في مسيرة نهضة مجتمعنا الاقتصادية والاجتماعية فاننا نجدد تأكيدنا على ما نمنحه من أولوياة لتنمية مواردنا البشرية ولمزيد من تأهيلها لأنها أساس البناء المتواصل لصرح تلك النهضة التي ننشدها.
ويندرج إطلاقنا لسيرورة إصلاح منظومتنا التربوية في هذا الاطار وعليه فاننا نهيب بالجميع حكومة وجماعات محلية ومؤسسات تعليمية وكل الأطراف والشركاء المعنيين بقطاع التربية والتكوين أن يكرسوا أقصى جهودهم طيلة هذه العشرية للانخراط في تلك السيرورة بكل ما تقتضيه من يقظة وحزم وعطاء متواصل.
وفي هذا الصدد ننتظر من حكومتنا أن تولي كامل عنايتها لتحسيد الأولوية التي منحناها للتربية والتكوين في مشروع الميثاق الجديد للجماعات المحلية الذي أمرنا باعداده وعيا منا بأن أسمى خدمة يمكن للجماعة أن تسديها لمواطنيها انما تتمثل في اسهامها الفعال في ضمان تربية جيدة لبناتهم وأبنائهم ولاسيما خلال المراحل الأولى من مسارهم الدراسي.
كما أننا نحث المقاولات على تدعيم الجانب التطبيقي للتعليم وعلى الخصوص إبرام علاقات تعاقد بين المشغلين والمتعلمين من شأنها أن تمنح لهؤلاء فرصة التمرس داخل المقاولات كما نحثها على تشجيع وتطوير الشراكة بينها وبين السلطة المكلفة بالتربية والتكوين بالتناوب والمشاركة الفاعلة في المشاريع المتعلقة بتنمية البحث العلمي.
وانطلاقا من العطف الذي تحظى به أسرة التعليم لدى جلالتنا واعتبارا لقناعتنا بدورها الحاسم في تحقيق أهداف الاصلاح المنشود فقد أعلنا في خطاب العرش عن إحداث مؤسسة لدعم وإنعاش العمل الاجتماعي لفائدة هذه الأسرة العزيزة علينا من شأنها أن توفر لأفرادها مع عائلاتهم ما هم في حاجة إليه من خدمات اجتماعية وأبينا إلا أن نطلق على هذه المؤسسة اسم جنابنا الشريف تقديرا منا للمجهود الذي تبذله هذه الأسرة والذي ننتظر منها أن تضاعفه من أجل أداء رسالتها النبيلة في التربية والتكوين بكل اتقان وتفان واخلاص وبما يستلزمه ذلك من مسؤولية واجتهاد متواصل وروح المبادرة البناءة والابتكار الخلاق.
وفي نفس السياق فقد شكلنا لجنة خاصة لوضع مشروع النص المنظم لهذه المؤسسة وسنسهر على إخراجها لحيز الوجود في أقرب الاجال يقينا من جلالتنا بأن أسرة التربية والتعليم هي أهل لكل التفاتة تروم حفزها ورفع معنوياتها وصون كرامتها وتغذية روح التضحية لديها بأعمال اجتماعية ملموسة ومجدية.
وحتى نوفر سبل النجاح لسير أعمال هذه المؤسسة وضمان أدائها لمهامها على أحسن وجه فقد أصدرنا تعليماتنا السامية لحكومتنا كي تخصص كل سنة وطيلة هذه العشرية دعما ماليا لفائدة هذه المؤسسة قدره 2 في المائة من مجموع الغلاف الخاص بالأجور المنصوص عليه في القوانين المالية المتعلقة بالوزارات المعلفة بقطاع التربية والتعليم.
شعبي العزيز
انه لا سبيل لنا غير النجاح بعون من الله وتوفيقه في هذه المسيثرة التربوية الكبرى سلاحنا في ذلك هو حرصنا الدائم على خدمة المصلحة العليا لوطننا وجعلها فوق كل اعتبار وكذا ايماننا الراسخ بما يتحلى به شعبنا من إرادة وإصرار وعزيمة لاتعرف الكلل أو الملل من أجل بلوغ الأهداف المنشودة من الاصلاح.
فلنعمل جميعا بروح المواطنة الصادقة وبكل ما أوتينا من يقظة وحزم ومثابرة وطول نفس طيلة هذه العشرية في أفق تشييد مدرسة عصرية يسهم فيها الجميع من أجل مغرب الجميع لأنه على أساس البناء المحكم والمتكامل لدعائم مدرستنا الجديدة وعلى أساس نجاعة أدائها لوظائفها وجدوة عطائها والتقويم المستمر لمردوديتها ونتائجها يتوقف نجاح المغرب المستمر في تحقيق تنميته الاقتصادية والاجتماعية المستديمة.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير أمتنا وجعل السداد حليفنا في السير على صراطه المستقيم وهدى قرانه المبين الذي كانت القراءة وطلب العلم أول أمر أتى به محكم تنزيله لنبينا الصادق الأمين.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وحرر بالقصر الملكي بأكادير في يوم الثلاثاء 13 جمادى الثانية عام 1421 هجرية / الموافق ل 12 شتنبر سنة 2000 ميلادية .

محمد السادس ملك المغرب''.