صاحب الجلالة الملك محمد السادس يوجه رسالة سامية إلى المشاركين في المؤتمر الثالث للفكر العربي

مراكش يوم 01/12/2004

"الحمد لله،
والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
أصحاب السمو، أصحاب المعالي،
حضرات السيدات والسادة،
يطيب لنا أن نشيد بمبادرة مؤسسة الفكر العربي، لعقد مؤتمرها الثالث بالمغرب، في موضوع "العرب بين ثقافة التغيير وتغيير الثقافة". وذلك لما نوليه من أهمية بالغة للثقافة في عملية التغيير الهادئ، الذي نقوده ببلادنا، ولما تفرضه المرحلة التاريخية الدقيقة، التي تمر بها أمتنا، من ضرورة إعادة التفكير في الفكر العربي.
ونود في البداية، أن نؤكد لكم أن خطابنا ليس بالكلمة التوجيهية. فالفكر الحر الذي نؤمن به يتنافى مع التوجيه. كما أن افتتاحنا الذي لن يكون شكليا أو مداخلة، في شأن التجربة المغربية، المعروضة للمناقشة مع نظرائكم المغاربة، هو فرصة لمشاطرتكم الانشغال بهذا الإشكال.
فأنتم إزاء موضوع قديم- جديد، اتخذ عناوين مختلفة عبر الأزمنة : من الإصلاح والنهضة إلى التقليد والحداثة، والأصالة والمعاصرة.
ولعل ربطكم للتغيير بالثقافة، يدل على وعي قوي، بحتمية التغيير، وعلى إدراك عميق بدورها الحاسم فيه، لأن نماذج الحكم والتنمية التي تجاهلتها، انتهت إلى الانغلاق أو الاستلاب.
ولذلك فإن الفكر الجديد مرتبط بالديمقراطية والاقتصاد والتربية، باعتبارها جوهر التغيير المنشود.
ومن هذا المنظور، فإن الديمقراطية، التي نعمل على بنائها، تظل في جوهرها، وقبل أن تكون مؤسسات وآليات، ثقافة للحرية والعقلانية، والمواطنة المسؤولة، واحترام القانون.
كما أن التنمية القوية والمستدامة، للخروج من التخلف الاجتماعي، تظل رهينة بسيادة القيم الثقافية المحفزة لها، كالمبادرة الحرة، والاستحقاق والشفافية، والإنتاجية والتنافسية، وحسن التدبير، والاقتصاد الاجتماعي.
ولن يتأتى للفكر الإسهام في البناء الديمقراطي التنموي، إلا إذا كان عاملا على التعبئة، وبعث روح الأمل والتضامن، حول مشاريع مجتمعية، تستهدف تحرير العقول والطاقات، لخلق الثروات، وإبداع مختلف التعبيرات الثقافية والفنية، وصيانة هويتنا الحضارية.
وهذا ما يتم عبر إصلاح منظومة التربية والتكوين، لبناء إنسان معتز بهويته، منفتح على عصره، منخرط في مجتمع المعرفة والاتصال، الموفر لتكافؤ الفرص، والذي لا مجال فيه للأمية الأبجدية والفكرية والرقمية.
إن هذا التوجه المصيري، يقتضي من المفكر العربي النهوض بدوره كاملا، بوصفه الضمير الحي للأمة، ووعيها الشقي أحيانا. وهو ما يتطلب من المثقف الالتزام والقرب من قضايا الناس، دون السقوط في الشعبوية، مع التحلي بالتجرد الفكري، دون الانزواء في برج عاجي.
وفي عصر أصبح فيه العالم سوق عكاظ فكري دائم، فإن تطوير الثقافة رهين بحسن استعمالها للوسائل الإعلامية والتواصلية الحديثة، سواء داخل الفضاء العربي، أو لتأكيد ذاتنا ضمن تعدد ثقافي، محلي وجهوي وكوني. وكل ذلك في نطاق التسامح والتوافق، حول قيم إنسانية عالمية، واحترام الآخر، حرية وهوية وعقيدة وحضارة، وكذا احترام درجة التطور التاريخي لكل شعب، ومساره الخاص.
فما أحوجنا، في هذا الصدد، إلى فكر استراتيجي بناء. وإننا لواثقون أن هذه الندوة، وغيرها من اللقاءات الخيرة، التي تنظمها مؤسسة الفكر العربي، تشكل منبرا لبلورته، بما تحفل به مداولاتها القيمة من اجتهاد، لنخبة العالم العربي، ورجال السياسة والعلم والفكر، المختصين والمهتمين بأحواله.
وإذ نرحب بكم بالمغرب وبمراكش، حاضرة تفاعل الثقافات والحضارات ؛ فإننا نسأل الله تعالى أن يكلل أعمالكم بالتوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".