نص خطاب جلالة الملك إلى الأمة بمناسبة عيد العرش

الرباط يوم 30/07/2003

"الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله واله وصحبه
شعبي العزيز،
لقد جرت العادة بان يتضمن خطاب العرش حصيلة وافاق عمل الدولة. لكن حرصي على مصارحتك بالوضعية التي تمر بها البلاد دفعني لجعل هذا الخطاب يشكل وقفة وطنية جماعية تتجاوز التذكير الموءلم للاحداث الارهابية للدارالبيضاء إلى استخلاص الدروس والتدبر في تصحيح مسار الأمة.
ومهما تكن فظاعة هذه الجرائم الارهابية فاننا نحمد الله تعالىعلى ما أحاطنا به من ألطاف. ربانية مكنتنا من السيطرة على شبكتها الإجرامية.
وان اعتزازنا الكبير بإجماعك على إدانة الارهاب في التحام مكين بعرشك والتزام بمكاسبك الديمقراطية لا يعادله إلا تساوءلنا الملح: كيف يمكن تحويل هذه الادانة من غضب جماهيري إلى مواجهة عقلانية لكل مظاهر الانحراف.
وهل قام كل منا بالنقد الذاتي الكفيل بجعل المصائب مصدر قوة واعتبار لتصحيح الاختلالات.
انني من منطلق الامانة العظمى المنوطة بي في التعبير عن انشغالات الأمة أقول: اننا كلنا مسؤولون فرادى وجماعات سلطات وهيآت أحزابا وجمعيات عن البناء الجماعي لمجتمعنا الديمقراطي الحداثي الذي هو مشروع الأمة بأسرها.
وإدراكا مني بان تحصينه من موءامرات أعداء الوطن والدين والديمقراطية لايكون ناجعا إلا بالادراك الواضح لجوهره وأبعاده فقد ارتأيت ان نقف جميعا عند مرجعياته ووسائل تحقيقه ومرتكزاته.
أما مرجعيات الملكية الدستورية المغربية فأكتفي اليوم بالتأكيد على مقوماتها المتمثلة في الإسلام والديمقراطية.
فمنذ أربعة عشر قرنا ارتضى المغاربة الإسلام دينا لهم لقيامه على الوسطية والتسامح وتكريم الانسان والتعايش مع الغير ونبذ العدوان والتطرف والزعامة باسم الدين. وفي ضوء هذه التعاليم السمحة شيد أسلافنا حضارة إسلامية ودولة مغربية مستقلة عن الخلافة المشرقية متميزة بالعمل في ظل وحدة إمارة المؤمنين وبالسماحة الدينية وبوحدة المذهب المالكي.
فقد تمسك المغاربة على الدوام بقواعد المذهب المالكي المتسم بالمرونة في الاخذ بمقاصد الشريعة والانفتاح على الواقع وعملوا على إغنائه باجتهاداتهم، مؤكدين ملاءمة اعتداله لروح الشخصية المغربية المتفاعلة مع الثقافات والحضارات.
فهل الشعب المغربي القوي بوحدته المذهبية الدينية وبأصالته الحضارية بحاجة اليوم إلى استيراد مذاهب دينية أجنبية عن تقاليده..
اننا لن نقبل ذلك لان هذه المذاهب منافية للهوية المغربية المتميزة. وسنتصدى لمن يروج لاي مذهب دخيل على شعبنا بقوة ما تقتضيه أمانة الحفاظ على الوحدة المذهبية للمغاربة مؤكدين بذلك حرصنا على صيانة اختيارنا لوحدة المذهب المالكي في احترام لمذاهب الغير لان لكل شعب خصوصياته واختياراته.
ولقيام الإسلام على الدعوة للسلم والامن والوئام فقد أدرك المغاربة ان الجهاد في أسمى معانيه هو جهاد ضد النفس الامارة بالسوء وضد الفتنة، كما انه اجتهاد وتنافس في العمل الصالح.
وقد تم تحديث هذا الالتزام الديني والتاريخي المستمر طبقا للبيعة الشرعية بتعاقد سياسي دستوري عصري أجمعت الأمة من خلاله على اعتبار الإسلام دين الدولة والملك أميرا للمؤمنين.
فهل يقبل المغاربة المتشبثون بهذه المقومات الحضارية والدستورية الراسخة ان تأتي شرذمة من الخوارج عن الشرع والقانون لتضليلهم باسم الدين..
كلا، بل أقول بلسانك شعبي العزيز اننا لن نقبل أبدا اتخاذ الإسلام مطية للزعامة باسم الدين أو القيام بأعمال الارهاب وتمزيق الوحدة المذهبية للأمة والتكفير وسفك الدماء.
وبنفس القوة فاننا نؤكد ان علاقة الدولة بالدين محسومة في بلادنا في ظل تنصيص الدستور على ان المملكة المغربية دولة إسلامية، وان الملك أمير الموءمنين موءتمن على حماية الدين وضمان الحريات بما فيها حرية ممارسة شعائر الاديان السماوية الاخرى.
وباعتبار أمير الموءمنين مرجعية دينية وحيدة للأمة المغربية فلا مجال لوجود أحزاب أو جماعات تحتكر لنفسها التحدث باسم الإسلام أو الوصاية عليه، فالوظائف الدينية هي من اختصاص الامامة العظمى المنوطة بنا بمساعدة مجلس أعلى ومجالس إقليمية للعلماء نحن مقبلون على تأهيليها وتجديدها وتفعيل أساليب عملها.
وبهذا المنظور المتنور لمرجعيتنا الدينية يتكامل الإسلام مع الحداثة مشكلا رافدا أساسيا من روافد المرجعية الكونية منسجما مع دعامتها الكبرى ألا وهي الديمقراطية التي جعلناها عماد الملكية الدستورية المغربية وخيارا لا رجعة فيه.
ولان الانتقال الديمقراطي طريق شاق وطويل يقتضي توفير مناخ الاستقرار والالتزام واليقظة فان أول شرط لتحقيق ذلك هو الدولة القوية بسيادة القانون القادرة على ضمان أمن الاشخاص والممتلكات والتصدي لمن يستغلون توسيع فضاء الحريات للنيل من سلطة الدولة.
وإذا كنا معتزين بما حققناه من مكتسبات وإجماع حول ثوابت الأمة فان الوحدة الترابية التي جعلناها من مقدساتنا واخترنا الحل السياسي التفاوضي لانهاء النزاع المفتعل حولها، تقتضي منا الاستمرار في اليقظة والتعبئة حولها باعتبارها جزءا لا يتجزأ من كيان المغرب وهويته.
وعلاوة على الاجماع حول الثوابت والتوافق على حد أدنى من القواعد فان ترسيخ الديمقراطية لن يكتمل الا بوجود أحزاب سياسية قوية.
ومإذا عسى ان تكون قوة الاحزاب إذا لم تنهض بدورها الفاعل في تأطير المواطنين وتمثيلهم وفي مقدمتهم شباب الأمة والعمل على تعزيز سلطة الدولة وتوفير مناخ الثقة في المؤسسات.
وكيف السبيل إلى تحصين مشهدنا السياسي من وجود هيآت قائمة على تقسيم المجتمع إلى طوائف دينية أو عرقية وأخرى لا هم لها الا الاغراض الانتخابوية بدل التنافس على البرامج الملموسة وتكوين النخب الواعية المسؤولة.
ان انشغالنا الصادق بإعادة الاعتبار للعمل السياسي بمعناه النبيل يجعلنا نجدد التأكيد على وجوب التعجيل بإقرار قانون خاص بالاحزاب تجسيدا لحرصنا الاكيد على تمكينها من الوسائل الناجعة لتفعيل دورها على الوجه الأكمل.
ويتعين على هذا القانون ان يتوخى تقوية دور الاحزاب في تأطير وتمثيل المواطنين كافة بمنع تكوينها على أساس ديني أو عرقي أو لغوي أو جهوي، كما يجب تمكينها من التمويل العمومي لانشطتها بكل شفافية بما يكفل قربها من الانشغالات الحقيقية للمواطنين واقتراح البرامج الواقية والحلول الملموسة لمشاكلهم وتعبئتهم في كل القضايا محلية كانت أو وطنية في تكامل وانسجام مع منظمات المجتمع المدني.
وفي الوقت الذي تخوض فيه بلادنا استحقاقات انتخابية وفي مقدمتها انتخاب مختلف مجالس الجماعات المحلية فان أمام أحزابنا السياسية فرصة مواتية لتجسيد المسؤولية الوطنية في إيجاد مؤسسات قادرة على تحقيق الجانب التنموي والتحديثي لنموذجنا المجتمعي الوطني، وهذا ما يريده الشعب المغربي الذي لم يعد يقبل ركوب بعض الهيات في المواسم الانتخابية لمواضيع أو شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع وليس مستعدا لرهن التحديات الحقيقية لحاضره ومستقبله بشعارات ماض دفين.
لقد مكن ترسيخنا للمسار الانتخابي من بلوغ بلادنا مرحلة النظام الديمقراطي المعتاد في اجراء كل اقتراع في موعده القانوني وانهاء انشغال الطبقة السياسية فقط بالمواعيد الانتخابية.
بيد ان هذا التقدم سيظل شكليا إذا لم يتم تحصينه بحسم الاشكال العميق التالي : هل سنتعامل مع الانتخابات على أهميتها كلحظة عادية في حياة الأمة لاعطاء المؤسسات دما جديدا ونفسا قويا..
أم سنتمادى في النظر إلى الانتخاب على انه المعركة الوحيدة الحاسمة.
وهل سنستمر في تأجيل البت في القضايا المهمة للأمة إلى ما بعد إجراء الانتخاب أو تعليق انجاز مشاريع الاصلاح الكبرى بدعوى قرب الاقتراع.
ان عدم الحسم في هذا الاشكال يضر بالديمقراطية ويغذي ادعاء خصومها بانها عرقلة للتنمية.
لذلك فان التزامي بالمصالح العليا للوطن والمواطنين وما يقتضيه من حرص على استمرار تحقيق مشاريع الاصلاح الكبرى يجعلني أقول باسمك : اني لن أقبل تأخير انجاز أي إصلاح وطني بدعوى انتظار إجراء الانتخاب أو ترضية فئة أو هيأة خارجة عن الاجماع أو التوافق أو الاغلبية.
كما أوءكد انه مثلما نحن في دولة ديمقراطية تعتز بإجراء الانتخابات في موعدها القانوني فاننا أمة عازمة على رفع تحديات التنمية بمشاريع حيوية لاتقبل التردد ولا الانتظار.
لقد انقضى وقت اصطناع الاعذار أو الاختفاء خلف الاعتبارات الانتخابوية لعدم تحمل المسؤولية. فالديمقراطية الحقة لاتكتمل الا في ظل الالتزام بمقومات الحكم القويم وفي مقدمتها ما يتطلبه من حزم وإقدام ومثابرة على مواصلة الاصلاحات الضرورية.
شعبي العزيز
لقد انصب حرصنا الاول منذ اعتلينا العرش على إعطاء روح جديدة للدولة المغربية الحديثة التي أرسى أركانها العتيدة والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني قدس الله روحه.
وفي هذا الصدد أولينا البعد الاجتماعي والاقتصادي مكانة الصدارة في السياسات العمومية بتركيز الجهود على المشاريع الاساسية للقضاء على أحياء الصفيح بتوفير السكن اللائق وتحقيق التنمية البشرية بالتعليم النافع، وإيجاد التشغيل المنتج بتحفيز الاستثمار وتحرير المبادرات الخلاقة للثروة وتقوية التماسك الاجتماعي بتفعيل التضامن.
وتلكم هي المرتكزات الاساسية لمشروعنا التنموي التي جعلنا منها أسبقيات المرحلة الحالية. وقد سطرنا أهدافها ضمن استراتيجية متكاملة محملين الحكومة وكل الفاعلين العموميين والخواص أمانة تجسيدها في برامج ملموسة محددة الوسائل والاماد والمسؤوليات.
فهل كانت المنجزات في مستوى الاستجابة لوضوح التوجهات وأهمية الرهانات والنهوض الكامل بالمسؤوليات.
وإذا اقتصرنا على مجال محاربة السكن غير اللائق ومع ادراكنا لمدى الصعوبات وتقديرنا للمشاريع المحققة أو المبرمجة فاننا كنا ننتظر ان تكون حصيلة المنجزات في مستوى جسامة التحديات.
لقد دق خطابنا لعشرين غشت 2001 ناقوس الخطر منبها إلى خطورة انتشار السكن الصفيحي والعشوائي لما له من أثر سلبي على كرامة المواطن وما يشكله من تهديد لتماسك النسيج الاجتماعي داعيا إلى اعتماد برنامج وطني تضامني مضبوط المسؤوليات
وبعد سنتين وبدل ان أعاين خلال زياراتي التفقدية لاقاليم المملكة القضاء التدريجي على السكن الصفيحي ألاحظ بمرارة انتشاره في عدة مدن. بل ان أحياء صفيحية قد ظهرت وتضخمت لتصبح مدنا عشوائية قائمة الذات.
ومثل هذا البناء العشوائي لم ينزل من السماء ولم ينتشر في الارض بين عشية وضحاها. بل ان الكل مسؤول عنه. وذلكم انطلاقا من المواطن الذي يدفع اليوم رشوة لمسؤول قد يأتي غدا بالجرافة ليهدم "براكته" أمامه إلى مختلف السلطات العمومية والجماعات المحلية المتهاونة في محاربة انتشار مدن الصفيح بدل التشجيع على توفير السكن اللائق.
فهل يجوز والحالة هذه اعتبار ذلك قدرا محتوما.
ان تشبعنا بالروح الايجابية يجعلنا نعتبر ان الوضعية وان كانت مقلقة فانها غير ميوءوس منها إذا تجندنا لمعالجتها بكل استعجال وحزم وإلا فقدنا التحكم فيها تاركين مدننا تتحول إلى بوءر للاقصاء والانغلاق والحقد والتواكل بدل ان تكون فضاءات للتضامن الاجتماعي والانتاج الاقتصادي والازدهار العمراني والانفتاح الحضاري.
وهذا ما لا أرضاه لبلدي وشعبي الذي أتولى أمانة قيادته ضمن ملكية تستمد قوتها من تجذرها وقربها من الشعب ولذلك أحرص على تفقد أحوالك ميدانيا طول السنة في مختلف الجهات لتحفيز المبادرات وتفعيل مشاريع التنمية.
وقد اكتفيت لحد الان بتوجيه السلطات العمومية والمنتخبة كل في نطاق اختصاصه لينهضوا بمهامهم كاملة عن قرب لانه لا يمكن لملك البلاد ان يقوم بعمل الوزير أو العامل أو رئيس جماعة محلية ولاني حريص على ممارسة كل سلطة لصلاحياتها بروح المسؤولية والفعالية.
ونهوضا بالامانة العظمى فاني لن أسمح بالتهاون في القيام بالشان العام بحيث سأحرص على تفعيل كل أشكال المراقبة الصارمة والمحاسبة الحازمة لانه إذا كان كل منا راعيا ومسؤولا عن رعيته فان خديمك الاول راع لهذه الأمة وموءتمن على شوءونها العامة.
واستشعارا للاهمية القصوى للتعليم النافع في تحرير العقل وترسيخ روح المواطنة لدى ناشئتنا وتأهيلها لخوض تحديات التنمية والعولمة ومجتمع المعرفة والاتصال كانت مصادقتنا على الميثاق الوطني للتربية والتكوين أول القرارات الاستراتيجية التي اتخذناها مبوئين تفعيله مكانة الاسبقية الثانية لهذه العشرية بعد القضية المقدسة لوحدتنا الترابية.
وعلى الرغم من الخطوات الموفقة التي قطعناها في هذا الورش الحيوي الصعب بعد مضي ثلاث سنوات على الشروع فيه فان غلبة الجانب الكمي فيها وعدم الاقدام على ما يتطلبه الاصلاح العميق من قرارات جريئة وشجاعة تمس جوهر نظام التربية والتكوين يجعلنا نقول باسم الأمة.. كفى من نظام تعليمي ينتج البطالة والانغلاق.
وإذا كان تحرير كل المغاربة من الفقر المادي يتطلب جهودا لعدة أجيال فان بالامكان تحريرهم في أمد منظور من الجهل والامية الفكرية والانغلاق وغيرها من الفقر المعنوي الذي هو أسوأ أحوال التخلف.
ولن يتأتى لنا ذلك الا بالاصلاح النوعي لنظام التعليم وخصوصا البرامج والمناهج التي يتعين تنصيب اللجنة الدائمة الخاصة بها المنصوص عليها في الميثاق. ويجب على هذه اللجنة الانكباب على تجديد هذه البرامج والمناهج ابتداء من الدخول المدرسي لسنة 2003 بالسرعة والفعالية الكفيلة بتحقيق هذا الاصلاح بحيث ينبغي ألا يحل الموسم الدراسي لسنة 2004 الا وقد نجحنا في رفع هذا التحدي بالشروع في تلقين ناشئتنا تعليما حديثا وجيدا وتربية سليمة وصالحة.
لقد بذلت الدولة مجهودا كبيرا لتحسين الاوضاع الاجتماعية لنساء التعليم ورجاله وتحفيزهم على الانخراط القوي في تفعيله. واننا لنناشد الاسرة التعليمية الالتزام بالامانة الملقاة على عاتقها في التربية السليمة لفلذات أكبادنا بروح التجرد واستحضار جسامة المسؤولية عن أعظم استثمار نخوضه الا وهو الاستثمار في تأهيل الطاقات الشابة المورد المستقبلي للأمة.
ونظرا لاهمية الجوانب التربوية والثقافية في النهضة الشاملة فاننا نؤكد على الدور الحيوي للجامعة وللنخبة الفكرية الوطنية في ترسيخ الحداثة باعتبارها قيمة مضافة لرصيدنا الحضاري وفي تنشئة شبابنا على التشبع بالوطنية الملتزمة.
وفي هذا الصدد فاننا ندعو المجلس الاستشاري لحقوق الانسان الذي يعبر عن مختلف مشارب الأمة إلى وضع مشروع ميثاق وطني لحقوق المواطن وواجباته وكذا الانكباب على اعداد الاقتراحات اللازمة لسد الفراغات التشريعية في مجال محاربة كل أشكال العنصرية والكراهية والعنف.
وبذلكم نجسد ما نتوخاه من تعميق لمواطنة عصرية وفية لهويتنا تنهض بها أسرة متماسكة واعلام مسؤول نحن عازمون على تأهيلهما لذلك من خلال المضي قدما في الاصلاح الجوهري لمدونة الاسرة ولمشهدنا الإعلامي.
ولان بلدنا يعرف انتقالا شموليا يتطلب تعزيز قدرات الرصد والتدبر والتوقع فقد قررنا احداث معهد ملكي للدراسات الاستراتيجية ينكب على هذه المهام الحيوية للتحكم والتفاعل مع التحولات العميقة الداخلية والخارجية.
شعبي العزيز،
ان ديمقراطيتنا ستظل هشة إذا لم تقم على ادارة فعالة وقضاء عادل وعلى اقتصاد منتج للثروات الموفرة لفرص الشغل النافع لشبابنا.
واننا لمطالبون ببذل المزيد من الجهود لانجاز الاصلاحات اللازمة في هذا الشان في نطاق اعتماد مقاربة شمولية تتبوأ التنمية الاقتصادية مكانة الصدارة فيها من خلال مشاريع استراتيجية مثل المشروع الكبير لطنجة المتوسط.
ولتحقيق ذلك فليس أمامنا الا مواصلة تحديث وظائف الدولة في توفير مناخ الثقة والاستقرار وضمان سيادة القانون والحرص على مهام الضبط والتقويم وتعبئة الطاقات.كما انه لا مناص لنا من تحفيز الاستثمار والمبادرة الخاصة بالمزيد من تحرير الاقتصاد وانفتاحه وتأهيله لكسب رهانات الشراكة ورفع تحديات الانتاجية والتنافسية والتفاعل الايجابي مع العولمة.
شعبي العزيز،
لقد أظهر التضامن الدولي الواسع مع بلادنا اثر الجرائم الارهابية التي استهدفتها مدى المكانة البارزة التي يحظى بها المغرب لدى المجموعة الدولية باعتباره نموذجا متميزا للانتقال الديمقراطي الرزين وقطبا جهويا مشهودا له بالتمسك بفضائل الحوار والتفاوض والاعتدال والتسامح وفاعلا قويا في دعم الامن والسلام والشرعية والوفاء بالتزاماته الدولية.
ومثلما يجسد التوافد الهائل لرعايانا الاعزاء المقيمين بالخارج على وطنهم تعلقهم الراسخ ببلدهم فان ارتفاع حجم الاستثمارات الخارجية والداخلية واستمرار وفود السياح على المغرب بوصفه وجهة سياحية امنة وجذابة يؤكد الثقة العميقة في حاضره الواثق المعطاء ومستقبله المشرق الواعد.
وكما عبرنا بالتزامنا بنموذجنا الديمقراطي عن تصدينا الجماعي للارهاب والانغلاق فاننا مدعوون لترسيخ مكانة بلادنا البارزة بمواصلة التفاعل الايجابي مع التحولات المتسارعة والمتشابكة للعولمة.
وقد حرصنا على ان يستفيد المغرب من الفرص التي يتيحها هذا الواقع العالمي الجديد ويتفادى اثاره السلبية المحتملة من خلال جعل سياستنا الخارجية تعمل وفق المنظور الاستراتيجي للامن الشمولي الذي تنصهر فيه مختلف الاهتمامات والابعاد السياسية والاقتصادية والثقافية والانسانية والبيئة اضافة لتسوية النزاعات التقليدية.
والتزاما بهذا المنظور دعونا إلى ديبلوماسية جريئة ونافذة جاعلين من الجوار والتضامن والشراكة التوجهات الاساسية لعملها الفعال.
ومن هذا المنطلق فاننا حريصون على تمتين علاقات بلدنا مع جيرانه الاقربين وفي مقدمتهم أشقاوءنا في الاتحاد المغاربي الذي لا سبيل إلى بنائه على أساس سليم الا بايجاد حل سياسي ونهائي للنزاع المفتعل حول أقاليمنا الجنوبية في اطار سيادتنا الوطنية ووحدتنا الترابية. وكيفما كان الحال فاننا نؤكد ان المغرب قد طوى على الصعيد الداخلي استرجاعه المشروع للاقاليم الجنوبية وانه معبأ بكل قواه للدفاع عن وحدته الترابية، كما انه يؤكد استمرار تجاوبه مع كل الارادات الحسنة والمبادرات التوافقية المنصفة للطي النهائي للمشكل المفتعل حولها.
كما نولي عناية خاصة لجوارنا الاورومتوسطي بالاسهام في التفعيل الامثل لمسار برشلونة تجسيدا للامن الشامل بمختلف ابعاده معربين عن تقديرنا العميق لتجاوب شركائنا في الاتحاد الاوربي مع تطلعنا لاقامة علاقة متقدمة معه أقل من العضوية وأكثر من الشراكة.
أما التضامن فيشمل مواصلة دعمنا لقضايا أمتنا العربية والإسلامية وفي طليعتها القضية العادلة للشعب الفلسطيني الشقيق والالتزام الدائم باقامة سلام عادل وشامل بالشرق الاوسط علىأساس مقررات الشرعية الدولية ومبادرات والتزامات الاطراف المعنية خاصة منها " خريطة الطريق" للرباعي الدولي ومبادرة السلام العربية لقمة بيروت.
كما ان تجاوز عقود من السلبيات والاحباطات لن يتحقق الا باعادة توجيه التضامن العربي نحو الاندماج الاقتصادي وفق اعلان أكادير واقامة نظام عربي جديد ومتماسك، وبنفس الروح التضامنية سنواصل دعم مسار التنمية المستديمة والمساهمة في اخماد بوءر الصراع باتخاذ مبادرات المصالحة لاحلال السلام في القارة الافريقية تأكيدا لانتمائنا العريق اليها أو على صعيد بلدان الجنوب نهوضا بالتزامنا كرئيس لمجموعة السبعة والسبعين زائد الصين باقامة علاقات اقتصادية دولية متوازنة ومنصفة لها.
أما الشراكة التي نحرص على توسيع مجالها الاقتصادي النوعي فينبغي ان تشكل توجها فعالا لديبلوماسيتنا سواء مع بلدان الجوار والتضامن أو مع الدول التي نتطلع لاقامة شراكة معها، وفي طليعتها فضلا عن أصدقائنا في الاتحاد الاوربي وفيدرالية روسيا الولايات المتحدة الامريكية التي نعبر عن ارتياحنا الكبير للتقدم الذي أحرزه مسار ابرام اتفاقية للتبادل الحر معها.
شعبي العزيز ،
إذا كانت قوى الشر والظلام قد استهدفت ضرب انفتاح المغرب والمساس بنظامه الديمقراطي وتقاليده العريقة في التسامح الديني فان أعمالها الاجرامية لم تنل مطلقا من عزيمتك الصلبة في تحدي الصعاب. وسترمي بها ذاكرة الشعب المغربي الحافلة بالامجاد إلى مهملات التاريخ بعد استخلاص كل العبر منها.
وفي مقدمة تلكم العبر التحام العرش بالشعب الذي يتجلى مداه في الشدائد والمسرات.
وهذا ما أكدته شعبي العزيز بفرحتك العارمة بازدياد ولي عهدنا صاحب السمو الملكي الامير مولاي الحسن ضاربا أروع الامثلة على تشبثك الراسخ بنظامك الملكي الدستوري وعلى الالتحام المكين بين العرش والشعب الذي هو من نعم الله الكبرى على هذا البلد الامين، وهو ما جعل أسرتنا الملكية تعيش في قلب الشعب المغربي مثلما يعيش الشعب المغربي في قلب هذه الاسرة ولاسيما في وجدان خديمك الاول ملكك الضامن لدوام الدولة واستمرارها الموءتمن على سيادتها الساهر على أمنك واستقرارك وتقدمك.
والله العلي القدير ندعو ان يجعلنا على هدي أسلافنا الميامين في حرصهم على صيانة وحدة المغرب وحريات أبنائه وأمنهم وكرامتهم وفي طليعتهم جدنا ووالدنا المنعمان الملكان محمد الخامس والحسن الثاني قدس الله روحيهما. كما نترحم على شهدائنا الابرار الذين بذلوا أرواحهم في سبيل ان يعيش المغاربة في وطن حر موحد وراء قيادته الساهرة على عزته وازدهاره.
ويطيب لنا في هذا اليوم الاغر ان نشيد بما تتحلى به قواتنا المسلحة الملكية والدرك الملكي والامن الوطني والقوات المساعدة والوقاية المدنية من يقظة وتعبئة في سبيل الحفاظ على الامن والاستقرار ولا سيما تلك المرابطة في أقاليمنا الجنوبية، ونجدد بهذه المناسبة الغالية تأكيد عزمنا الراسخ على تمكينها جميعا من الوسائل المادية والبشرية والقانونية للقيام بواجبها على الوجه المطلوب في حفظ الحوزة الترابية وأمن الاشخاص والممتلكات.
كما نسأله تعالىان يديم الاواصر المتينة الجامعة بيني وبينك رصيدا لا ينفد يعبىء طاقاتك في المسيرة التي تخوضها بقيادتنا للبناء الجماعي لمغرب الوحدة والديمقراطية والتقدم، ضارعا إليه جلت قدرته ان يصلح لي ولكم أبناءنا وبناتنا ويعيننا على ان نوفر لهم مستقبلا أفضل "ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله" صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".