نص خطاب جلالة الملك إلى الاجتماع الرفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة

نيويورك يوم 15/09/2005

" الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه،
فخامة الرئيسين،
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والمعالي،
سعادة الأمين العام،
يسرني، في البداية أن أتوجه إلى أخينا الأجل، فخامة الرئيس الحاج عمر بانغو ومعالي الوزير الأول لمملكة السويد السيد غوران بيرسون ، بالتهنئة على اختيارهما لرئاسة هذا الاجتماع التاريخي والفريد في حياة منظمة الأمم المتحدة ، متمنيا لهما كامل التوفيق والنجاح في إدارة أعمال هذه القمة.
وأنتهز هذه الفرصة لتجديد الشكر الجزيل لأميننا العام، السيد كوفي عنان، على الجهود السخية والدؤوبة، التي ما فتئ يبذلها بكل إخلاص، لخدمة الأهداف النبيلة لمنظمة الأمم المتحدة، وتطوير هياكلها، وترشيد أعمالها، وتأهيلها لرفع تحديات القرن الحادي والعشرين، والألفية الثالثة.
وإن المشاركة المكثفة والرفيعة المستوى في هذا الاجتماع الهام، بقدر ما تنبعث من الرمزية التاريخية لهذه الدورة، فإنها تعد إشارة قوية عن تشبث قيادات وشعوب بلداننا، بالمبادئ المثلى والمقاصد السامية لمنظومة الأمم المتحدة. كما أنها تعد تثمينا للدور الهام الذي تضطلع به ، واستشعارا لضرورة تحصينها وتأهيلها، لمواصلة النهوض بالمهام الجليلة والجسيمة، المنوطة بها، على الوجه الأكمل.
لقد أثبتت الأمم المتحدة، ولاسيما خلال العقدين الأخيرين، نجاعتها وجدواها، وقدرتها على مواكبة سيرورة العصر، رغم التحولات الجذرية التي عرفها العالم، منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. فمبادئ وقواعد المساواة بين الدول، واحترام سيادتها ووحدتها الوطنية والترابية، وسلامة أراضيها، وحل المنازعات بالوسائل السلمية، وعدم اللجوء إلى القوة أو التهديد بها، واحترام حقوق الإنسان الفردية والجماعية، تبقى الدعائم الأساسية لكل نظام عالمي.
وإن اقتناع المغرب لراسخ بأن تفادي النزاعات وفضها بالطرق السلمية، المنصوص عليها في الميثاق، يبقى الوسيلة الأنجع، ليس فقط للحفاظ على السلم بين الدول والشعوب، كيفما كانت طبيعة الخلاف بين أطراف النزاع، ولكن بالأساس، الشرط الأساسي والمحك الحقيقي للالتزام الفعلي بتلكم المبادئ المثلى، والمدخل الضروري، للقضاء على كل بؤر التوتر، والمضي قدما نحو توطيد الأمن الشامل، وتحقيق التنمية المستدامة، والتقدم المشترك، باعتبارها من المقومات العصرية، للاستقرار، جهويا وعالميا.
ومن هذا المنطلق، أبدينا باستمرار استعدادنا الصادق لحل النزاع المفتعل حول صحرائنا مع إخواننا في الجزائر، وأعطينا الدليل، باتخاذنا وتجاوبنا مع عدة مبادرات بناءة، على حرصنا القوي على تطوير علاقاتنا الثنائية، في جو من التضامن، وحسن الجوار، والتعاون المثمر، ضمن توجه استراتيجي لبناء اتحاد المغرب العربي، على أسس متينة وسليمة. وكلنا أمل في طي صفحة هذا النزاع نهائيا، والعمل مع أشقائنا وشركائنا المغاربيين، من أجل تدعيم التعاون والاستقرار والتنمية المندمجة في منطقتنا.
وبنفس الحزم والعزم، ما فتئ المغرب ينخرط بقوة في الجهود الدولية لإقامة سلام دائم وعادل بالشرق الأوسط ، يضمن العيش الحر الآمن لكل من شعوب المنطقة، داخل دولها الديمقراطية المستقلة، بما فيها الشعبان الشقيقان الفلسطيني والعراقي. كما أن بلادنا تساهم منذ عقود، في مجهودات وعمليات الأمم المتحدة، لتثبيت اتفاقات وقف إطلاق النار، وخلق الظروف والشروط الضرورية، من أجل استتباب السلم، ودعم الاستقرار في البلدان التي تعرف توترات ونزاعات حادة، أو تهددها مخاطر التمزق والبلقنة. لأجل ذلك تتواجد قواتنا في الكونغو والكوت ديفوار وهايتي. وكذلك كان عهدها في الصومال وأنغولا والبوسنة.
إن السجل الحافل للأمم المتحدة في حفظ السلام، يؤكد أن توطيد الأمن والاستقرار، سواء على الصعيد الجهوي أو الوطني أو الدولي، يبقى رهينا بتحقيق حد أدنى من النمو الاقتصادي لكل شرائح المجتمع، خصوصا في الدول النامية والفقيرة.
وقد ساهمت التطورات الحديثة، التي شهدها العالم في ميادين تكنولوجيا الإعلام والاتصال، في تقريب الشعوب فيما بينها، وإذكاء وعيها بفداحة التهديدات التي تحدق بالإنسانية، وتحفيزها على العمل من أجل معالجتها، عبر تفعيل جاد ومنسق للتضامن والتعاون الدوليين. وفي هذا السياق، فإننا إذ نؤكد انخراط المملكة المغربية القوي، في التعاون الجهوي والدولي، في مجال محاربة آفة الإرهاب المقيت، الذي استفحل منذ الاعتداءات الآثمة للحادي عشر من سبتمبر 2001 ، فإننا نعتبر إحكام التنسيق، خير تجسيد لمدى الفعالية التي يمكن أن تحققها المجموعة الدولية، لمواجهة أي تحدٍّ، متى توافرت الإرادة السياسية الجادة، وجندت الوسائل الضرورية لبلوغ الهدف المشترك، لتوطيد الأمن الشامل. وبنفس العزم وروح الالتزام، فإننا نشدد على مدى حاجة المجموعة الدولية إلى تعاضد وتعاون من هذا القبيل، لمعالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيق نمو واستقرار دول الجنوب، وخصوصا في قارتنا الإفريقية، ومساعدتها على تحمل مسؤولياتها في تحقيق التنمية البشرية، لشعوبها الشقيقة.
لقد تضمن إعلان الألفية، الذي اعتمدناه منذ خمس سنوات، تجسيدا لوعي المجتمع الدولي بضرورة العمل من أجل القضاء على الفقر المدقع والمجاعة المستفحلة، وتعميم التعليم الابتدائي، وتعزيز المساواة بين الرجل والمرأة، وتحسين التغطية الصحية، ومكافحة فيروس فقدان المناعة المكتسبة، وغيره من الأمراض والأوبئة الفتاكة. كما تضمنت البيانات الختامية لكل من مؤتمري جوهانسبورغ ومونتيري التزامات واضحة، آلت المجموعة الدولية على نفسها تحقيقها في آفاق زمنية محددة ، مما ساهم في بعث الأمل لدى الشعوب المستضعفة بأن التضامن الدولي، سينتقل من مرحلة الوعود والأماني والأقوال، إلى التجسيد الفعلي على أرض الواقع، ببرامج تنموية ومشاريع ملموسة، مدرة للثروات.
وتجسيدا لالتزامنا بالتفعيل الأمثل لهذه التعهدات الدولية، ركزنا خلال ترؤسنا لمجموعة 77 والصين، على تجنيد الوسائل الكفيلة بضمان تطبيق هذه الالتزامات، وتحقيق مرامي وأهداف الألفية بالنسبة لبلدان الجنوب، وعلى رأسها إفريقيا. فكانت الدعوة إلى الاجتماع الرفيع المستوى، لمتابعة تطبيق أهداف الألفية، والذي تم توسيعه، ليشمل إصلاح قواعد المنظومة الدولية وهياكلها. وإن أي تقييم موضوعي لمدى تنفيذ الدول النامية لما التزمت به في إطار الألفية، يبرز مدى ما قامت به بلدانها من مجهودات محمودة ، بانتهاج سياسات عمومية قويمة، تعتمد الحكامة الجيدة، وتعبئة الموارد المحلية، لخلق الظروف المواتية للتوظيف الأنجع للاستثمارات الأجنبية، وتسهيل الاندماج في التجارة الدولية. غير أن كل هذه المجهودات لا يمكن أن تعطي ثمارها كاملة، إلا إذا آزرتها مساعدات إنمائية عمومية أكبر حجما، ومحددة في جداول زمنية، تدعمها موارد مبتكرة وإضافية، وإعفاءات جمركية، وإلغاء أو تخفيف لمديونية الدول الفقيرة.
وانسجاما مع تعهدات المملكة المغربية الدولية، فقد بادرنا باعتماد مدونة للأسرة تقوم على مساواة الرجل والمرأة، وتضمن حقوق الطفل، وترفع كل أشكال الحيف عن النساء، وتصون كرامتهن، في حفاظ على وحدة وتماسك العائلة، وحرص على تمكين المرأة من الاندماج الفعلي، في التنمية الوطنية. وفي نفس السياق، قمنا بإطلاق "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، التي تنسجم مع فلسفة وأهداف الألفية، وتندرج ضمن رؤية شمولية، قائمة على مبادئ الديمقراطية السياسية، والفعالية الاقتصادية، والتماسك الاجتماعي، وعلى تمكين كل مواطن من الاستثمار الأمثل لمؤهلاته وقدراته، ضمن مشروع مجتمعي ديمقراطي حداثي، يعتمد تكافؤ الفرص، والمواطنة المسؤولة، ويجعل الإنسان في صلب عملية التنمية، بالمشاركة في بلورة مشاريعها، والمساهمة الفاعلة في إنجازها، والتوزيع العادل لثمارها بين الفئات والجهات، لتقليص التفاوتات الاجتماعية والمجالية، ومكافحة الإقصاء، بالتعبئة الوطنية الشاملة لكل الموارد والطاقات، لانتشال شرائح واسعة من المحرومين، وخاصة الشباب منهم، من آفات الفقر والأمية والبطالة، وتمكينها من أسباب العيش الحر الكريم، الذي ننشده لكل مواطنينا.
وبنفس القناعة والعزيمة، تواصل المملكة المغربية، عملها الدؤوب على التجسيد الفعلي للتعاون جنوب - جنوب، عبر تطوير سياسة للتضامن الملموس مع الأشقاء الأفارقة، تعتمد التكوين في المجالات التي يتوفر فيها المغرب على كفاءات وتجربة واسعة، وفتح أسواق بلادنا لصادرات الدول الإفريقية الأقل نموا، وإعفائها مما عليها من ديون نحو المغرب.
السيدين الرئيسين، إن إتمام منظمتنا لعقدها السادس تعد مناسبة يجب انتهازها، ليس لاجترار عقيم ومحبط لهفوات الماضي، أو انتقاد لاذع للاختلالات، وما يشوب بعض الأداء من نقائص، بل بالتوجه الإيجابي، لتجديد تشبثنا الصادق بمبادئها، والتعبئة الفعالة لطاقاتنا، لتأهيلها وإصلاحها، بكيفية جادة، لتقويتها، باعتبارها الإطار الأنجع للحوار والتفاوض، وإيجاد الحلول الملائمة للمشاكل المستعصية، وبناء صرح نظام عالمي منصف متعدد الأطراف، يرتضيه الجميع.
وإننا لنطمح في هذا السياق، لأن تكون ستينية الأمم المتحدة مناسبة لانبعاث جديد لتلكم الرؤية السياسية الحصيفة والإلهام الخلاق، اللذين ساهما في ميلاد منظمتنا العتيدة، حتى نتمكن بإرادة جماعية ومتآلفة، من اعتماد الإصلاحات الضرورية، الهيكلية منها والعملية، بما فيها توسيع مجلس الأمن، وتفعيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي، لصالح التنمية المستدامة، وتطوير لجنة حقوق الإنسان، بالنحو الذي يؤمن أداءها لمهامها السامية، بطريقة أكثر فعالية وديمقراطية.
وكلنا أمل في أن يثمر جمعنا الموقر هذا نتائج ترقى إلى تطلعات شعوبنا، وتؤسس لشراكة إنسانية جديدة، قوامها التعاون البناء، من أجل السلم والاستقرار والنماء لكل الشعوب، والتعايش والتفاعل بين الثقافات، والتحالف بين الحضارات، من أجل ترسيخ القيم الإنسانية المثلى الخالدة، للحرية والمساواة، والإخاء والتكافل، والأمن الشامل، والعدل والإنصاف، التي نؤكد لكم حرص المملكة المغربية على العمل المشترك معكم، على نصرتها، من أجل ترسيخ مواطنة كونية متضامنة، في نطاق منظومة أممية متجددة .

شكرا على إصغائكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعإلى وبركاته ".