"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
أصحاب المعالي والسعادة
حضرات السيدات والسادة
يسعدنا ان نتوجه اليكم بهذه الرسالة في افتتاح أشغال هذا الملتقى الهام منوهين باختياركم تكريس مداولاتكم لموضوع "الفعل الاستثماري" في ارتباطه الوثيق بالبعد الثقافي للتنمية. ان هذا البعد الذي يكتسي أهمية أساسية لا يسترعي انتباهنا إلا نادرا بفعل ضغط الأحداث التي تواجهنا رغم انه يشكل في الواقع شرطا لامندوحة عنه لتحقيق الازدهار الاقتصادي والتقدم الاجتماعي الذي نتوخاه.
تلكم حقيقة بديهية يشهد بها تاريخ الحضارات السابقة وما آلت إليه، فقد ثبت ان أيا منها لم يستكمل نضجه وقوته وإشعاعه إلا بعد بلوغ مرحلة معينة في تكوين رصيده الثقافي. ان ما يحدد السلوك الاجتماعي للانسان وما يجعله يطمح إلى تحسين ظروف عيشه يكمن في الدوافع الروحية والأخلاقية والاديولوجية التي تحركه بموازاة مع ما تراكم لديه من معارف وتجارب موفقة.
وبعبارة أخرى فان أي مشروع للتنمية بمفهومها الشامل يظل رهينا بمنظومة القيم السائدة التي ينجز فيها، فإذا كانت هذه المنظومة منفتحة على المستقبل مستنهضة للهمم بفضل الرسالة السامية التي تحملها فانها ستفضي دون ريب إلى تعبئة الطاقات المتوفرة والاستفادة من كافة الامكانات التي تزخر بها كل أمة. أما إذا تقوقعت هذه المنظومة في ثنايا الماضي بالاعتماد على المفاهيم الرجعية الغابرة فان ذلك سرعان ما يوءدي إلى بث روح الاحباط والجمود في النفوس، وتلكم هي المأساة التي حلت ببعض الحضارات وأدت إلى انحطاطها.
لقد أصبتم في تركيزكم على البعد الثقافي للفعل الاستثماري حيث ان كل عمل يقوم به الشخص يشكل بالضرورة تجربة فردية تساهم بدورها في إثراء الخبرة الجماعية كما ان كل مشروع للتنمية يشكل بمختلف آثاره خطوة في اتجاه التطور سواء على المستوى الاقتصادي أو العلمي أو الثقافي أو الاجتماعي.
وبطبيعة الحال فان السياق الثقافي قد يختلف من بيئة إلى أخرى اعتبارا للتنوع الكبير الذي تتميز به الثقافات، ومع ذلك فإذا كان من المشروع ان ننبذ المحاولات الداعية للتبعية والتنميط فانه مع ذلك لا محيد عن التمسك بالقيم الكونية الأساسية التي كانت دائما ولا تزال إرثا مشتركا تتقاسمه الانسانية جمعاء بغض النظر عما قد تعرفه من اختلافات عقائدية وثقافية.
وانطلاقا من هذه القيم الكونية التي تتمحور حول مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والتي استقيناها نحن مباشرة من التعاليم الإسلامية الحنيفة آلينا على نفسنا منذ اعتلائنا العرش قيادة المغرب على درب التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي.
وبهذا التوجه نظل مخلصين للإرث الذي تركه لنا جدنا المنعم جلالة الملك محمد الخامس ووالدنا المكرم جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراهما حيث استقر رأيهما رحمهما الله غداة الاستقلال على ان ينخرط المغرب في التوجه اللبيرالي بهدف ترسيخ المبادرة الحرة في مختلف القطاعات الاقتصادية.
وإذا كان يتعين على الدولة في البداية ان تحدث مؤسسات عمومية من أجل تدارك غياب مقاولات وطنية قادرة على تحريك القطاعات الأساسية فانها مع ذلك لم تمارس قط سياسة اقتصاد الدولة أو الاقتصاد الموجه، بل بادرت تدريجيا وكلما أمكنها ذلك إلى التخلي عن دورها المقاولاتي وشرعت في الوقت المناسب وبعيدا عن أي اكراهات اديولوجية في نهج سياسة الخوصصة وتحرير الاقتصاد منسجمة بذلك مع التوجهات الجديدة للاقتصاد العالمي كما انها مراعاة لضرورة الحفاظ على التوازنات الكبرى اعتمدت على مدى عقد من الزمن برنامجا للتقويم الهيكلي حظي باعتراف دولي كتجربة رائدة وموفقة.
وبالاضافة إلى ما خضع له الاقتصاد المغربي من تكييف وملاءمة فقد حرصنا شخصيا على اعتماد مسلسل شامل للاصلاحات المؤسساتية والتشريعية التي همت المجالات التي تتدخل المؤسسات العمومية بصفة مباشرة أو غير مباشرة بشان اتخاذ قرار الاستثمار فيها.
وهكذا تم تطبيق هذه الاصلاحات في قطاع العدل والادارة والاطار القانوني للتجارة والاعمال وكذا بالنسبة لقوانين الشغل والجمارك وتحديث النظام التمويلي، كما انها شملت أيضا رصد مداخيل الخوصصة لتمويل مشاريع أساسية عن طريق صندوق الحسن الثاني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية فضلا عن احداث مراكز لاستقبال المستثمرين.
وفي هذا الاطار مكنت سياسة التدبير اللامتمركز للاستثمار التي اعتمدناها في يناير 2002 والتي تندرج في اطار البعد الاقتصادي لمفهومنا للسلطة من تدليل كافة العراقيل الادارية وغيرها التي كانت تحول دون تحرير المبادرة الخاصة، وعليه فقد اصبح بفضل المراكز الجهوية للاستثمار بامكان المستثمر الراغب في احداث مقاولته أو تنمية استثماراته ان يجد رهن اشارته المسؤول والمخاطب الوحيد والمكان الاقرب الموحد والوثيقة الموحدة لتحقيق ذلك.
وهكذا وبعد مرور سنة واحدة حقق هذا الاجراء نتائج مشجعة حيث نتوقع تحسنا ملموسا في التوازنات الكبرى والاستثمار خلال هذه السنة، وبالرغم مما يتخلل عملية الاستثمار من تردد عبر العالم فان المغرب بقي يحظى بكامل الثقة في هذا المجال.
بل أكثر من ذلك فان المغرب بفضل المشروع الذي يتوخاه للاندماج المغاربي على أسس سليمة ووحدوية واتفاق الشراكة الذي يربطه بالاتحاد الأوروبي والذي سيتحول إلى شراكة نموذجية وكذا بفضل ما يجري حاليا من مفاوضات حول اتفاق التبادل الحر مع الولايات المتحدة الأمريكية علاوة على منطقة التبادل الحر التي شكلها مع بعض البلدان العربية على أساس إعلان أكادير في طريقة ليصبح قطبا حقيقيا للمستثمرين، وهذا ما أدركته عدة شركات متعددة الجنسيات حيث شرعت في الاستثمار في مناطق مختلفة من البلاد بهدف اقتحام أسواق بلدان أخرى.
كما ان حضوركم بهذه الكثافة وبهذا المستوى الرفيع في هذه المناقشات حول الاستثمار لخير دليل على مدى اهتمامكم بالموضوع كفاعلين اقتصاديين دوليين.
أتمنى لكم التوفيق في أشغالكم ومقاما طيبا في المملكة المغربية".