نص الرسالة التي وجهها جلالة الملك إلى المشاركين في ملتقى القدس الدولي بالرباط

الرباط يوم 28/10/2009

(تلاها وزير الشؤون الخارجية والتعاون السيد الطيب الفاسي الفهري)
"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
فخامة الرئيس،
أصحاب المعالي والفضيلة الأجلاء،
حضرات السيدات والسادة،
إنه لمن دواعي سعادتنا واعتزازنا، أن تحتضن بلادنا، أرض الحوار والسلام، هذا الملتقى الدولي الرفيع حول القدس الشريف، بحضور نخبة من دعاة السلام، والفعاليات السياسية البارزة، والشخصيات الدينية والحقوقية والفكرية والإعلامية المرموقة.
ويطيب لنا، في البداية، أن نعرب عن خالص تقديرنا ل "مؤسسة ياسر عرفات"، على مبادرتها بتنظيم هذا الملتقى الهام، الذي أبينا إلا أن نشمله بسابغ رعايتنا.
وهي مناسبة سانحة، للتنويه بأعمالها الجليلة، لتخليد ذكرى القائد والمناضل الفذ، المرحوم ياسر عرفات، الذي كرس حياته لخدمة القضية العادلة للشعب الفلسطيني الصامد، بكل شهامة وإيمان وإخلاص، إلى جانب رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وفي طليعتهم والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، الذي عمل، طيب الله ثراه، بحكمة وتبصر، وثبات على المبادئ، في سبيل نصرة الحقوق الفلسطينية المشروعة، وعلى الحفاظ على الطابع القانوني والحضاري لمدينة القدس الشريف، أرض الرسل والأنبياء، باعتبارها رمزا للتعايش بين الأديان السماوية.
ومما يضفي على ملتقاكم أهمية خاصة، كونه ينعقد في ظرفية تعرف تعثرات مقلقة لمسار السلام، مقابل تحول استراتيجي بالغ الأهمية، في مواقف القوى الكبرى، التي أصبحت أكثر استشعارا لحتمية إنهاء النزاع العربي- الإسرائيلي، وأكثر وعيا بأهمية القدس، في استتباب السلم والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
كما أن هذا الملتقى يأتي في وقت تصر فيه سلطات الاحتلال الإسرائيلي على التمادي في انتهاكاتها الممنهجة لحرمة المسجد الأقصى المبارك، ومواصلة مخططاتها الاستيطانية، بمبررات واهية، لفرض أمر واقع، يتعارض مطلقا مع قرارات الشرعية الدولية، وأحكام القانون الدولي، التي تعتبر القدس الشرقية جزءا لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967.
ونحن على يقين بأن ما يجمع بينكم من جليل المقاصد، والإيمان الراسخ بمشروعية قضية القدس، سيجعل من مساهماتكم وأفكاركم ومداولاتكم، إضافة نوعية لفهم أعمق، وتنوير الرأي العام العالمي، بعدالة وأهمية قضية مدينة القدس الشريف السليبة، أولى القبلتين وثالث الحرمين، لدى كافة المسلمين، وبجوانبها المتداخلة، وأبعادها الروحية والقانونية والأمنية والسياسية والإنسانية.
فخامة الرئيس،
أصحاب المعالي والفضيلة الأجلاء،
حضرات السيدات والسادة،
من منطلق الأمانة التي نتقلدها، بصفتنا رئيسا للجنة القدس، ما فتئنا نبذل المساعي الدبلوماسية، لدى رؤساء الدول الفاعلة، وقداسة البابا، والهيئات الدولية المعنية، من أجل الحفاظ على الطابع الخاص للقدس، وفقا للقرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والالتزامات المتبادلة بين الأطراف المعنية.
كما خاطبنا المجتمع الدولي، كلما دعت الضرورة والظروف إلى ذلك، للتدخل الحازم قصد وقف الانتهاكات الآثمة، والحفريات المشبوهة في مواقع متعددة بالحرم القدسي الشريف، معربين عن شجبنا القوي للتطاول الاستفزازي على مقدساتنا الإسلامية، كما حدث، في الآونة الأخيرة، مع اقتحام باحات المسجد الأقصى المبارك، خاصة باب المغاربة.
كما عبرنا عن إدانتنا لكل الممارسات الإسرائيلية العدوانية، وسياساتها الاستيطانية ومشاريعها التوسعية، باعتبارها تشكل إخلالا جسيما بالأوضاع والتوازنات السكانية والعمرانية في القدس المحتلة، ولتماديها في نهج سياسات الهدم والضم، ومصادرة الأراضي والممتلكات والترحيل والعزل والحرمان من حق ولوج أماكن العبادة ، في انتهاك صارخ للشرائع السماوية والمواثيق الدولية.
وفي هذا الصدد، ندعو المجتمع الدولي وفي طليعته الرباعية الدولية والاتحاد الأوربي للضغط على إسرائيل للتخلي عن ممارساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، وحملها على العودة الفورية إلى طاولة المفاوضات والالتزام بالمقررات الأممية والاتفاقات المبرمة بين الأطراف المعنية، والعمل الصادق على إيجاد حل عادل ودائم ونهائي لهذا النزاع.
وبموازة مع مواقفنا الثابتة لنصرة الحق الفلسطيني ومساعينا الدبلوماسية الحثيثة، اعتمدنا مقاربة عملية بإشراف وكالة بيت مال القدس الشريف، من خلال إنجاز مشاريع ومنشآت سكنية واجتماعية وتربوية، للإسهام في تحسين أحوال عيش إخواننا المقدسيين، ودعم صمودهم والحفاظ على المعالم الحضارية والروحية لهذه المدينة السليبة.
وفي هذا الصدد، نؤكد عزمنا الوطيد ، بعون الله وتوفيقه، وبتظافر كل الجهود الخيرة والمخلصة ، على مواصلة تقديم المغرب لدعمه التضامني المطلق لأهالي القدس ، وتنفيذ برامج عمل وكالة بيت مال القدس الشريف بهذه المدينة المباركة.
كما نناشد منظمة "اليونسكو" ولجنة التراث العالمي ، لتحمل مسؤولية صون وحماية المعالم الدينية والأثرية والتاريخية للقدس.
إننا لنحذر إسرائيل من مخاطر تسخير موروثها الثقافي والروحي، كعامل لتأجيج مشاعر العداء والتطرف، وضرب قيم المحبة والتسامح بين أتباع الديانات السماوية. وهي القيم المثلى التي حافظ عليها الحكم الإسلامي عبر قرون في بيت المقدس.
وأمام هذا الوضع، نوجه لجمعكم الكريم ومن خلالكم لكل الإرادات الحسنة، نداء للتحرك العاجل قصد خلق تحالف عالمي بين كل القوى الملتزمة بالسلام والضمائر المؤمنة بقيم التسامح والتعايش لإنقاذ مدينة السلام ومهد الأديان السماوية.
 فخامة الرئيس،
أصحاب المعالي والفضيلة الأجلاء،
حضرات السيدات والسادة،
انطلاقا من اقتناعنا الراسخ بأن اعتماد منطق القوة، ومحاولة فرض سياسة الأمر الواقع ، وطرح الشروط التعجيزية، مآله الفشل، فإننا نؤكد وجاهة الرؤية التي تبنتها اللجنة الرباعية الدولية، في نطاق "خارطة الطريق"، القائمة على حل دولتين تعيشان جنبا إلى جنب في أمن ووئام كمقاربة واقعية لإنهاء هذا النزاع المرير، الذي خلف آلاف الضحايا، وابشع ويلات الدمار والتهجير والمعاناة.
تلكم الرؤية التي تتطابق في جوهرها مع مبادرة السلام العربية، التي لا تعكس إرادة عربية فحسب وإنما إرادة العالم الإسلامي برمته، مجسدة في تبني هذه المبادرة الشجاعة على أعلى مستوى، في قمة مكة المكرمة الاستثنائية، برعاية كريمة من أخي الأعز الأكرم، خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، حفظه الله، وكذا في مؤتمر القمة الإسلامي بدكار.
وفي هذا الإطار، سنواصل اتصالاتنا، مع كل أصدقائنا وشركائنا، لإخراج عملية السلام من حالة الاحتقان التي تواجهها، جراء العراقيل التي تثيرها إسرائيل، أمام إطلاق مفاوضات بناءة، تؤسس فعليا لحل دائم وشامل، تتبوأ فيه قضايا الوضع النهائي، ولا سيما القدس، مكانة محورية وحاسمة، مؤكدين رفضنا لأي تسوية جزئية، ذات طابع إجرائي محدود.
كما نؤكد دعمنا لأخينا المبجل فخامة الرئيس محمود عباس، وللسلطة الوطنية الفلسطينية الشرعية. وهنا نلح على أن الوحدة الوطنية، واستقلالية القرار الفلسطيني، هما السبيل الوحيد لضمان القدرة التفاوضية اللازمة، من أجل إحقاق الحقوق الفلسطينية.
وفي الختام، فإننا نتطلع إلى أن يوجه هذا الملتقى الدولي رسالة إلى المجتمع الدولي بكافة مكوناته، لتكريس المزيد من الجهود لقضية القدس، وحث أطراف النزاع على التحلي بالواقعية والحكمة، ووقف جميع أشكال العنف، واعتماد التفاوض والحوار، باعتبارهما السبيل الأمثل لتطبيق الشرعية الدولية.
وإذ نرحب بضيوف المغرب الكرام، متمنين لهم مقاما طيبا بين ظهرانينا، فإننا نسأل الله العلي القدير أن يكلل أعمالكم بالنجاح، ويسدد خطانا لإحقاق الحق، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس الشريف، حتى تظل تلك البقعة الطاهرة، منارة مشرقة للتعايش والسلام بين أتباع الديانات السماوية: " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" صدق الله العظيم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ".