نص الرسالة التي وجهها جلالة الملك إلى المشاركين في أشغال المؤتمر العالمي الثاني للسياسة

مراكش يوم 31/10/2009

( تلاها السيد محمد معتصم مستشار جلالة الملك)
"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
 أصحاب المعالي والسعادة،
 حضرات السيدات والسادة،
يطيب لنا أن نتوجه إلى المشاركين في أشغال المؤتمر العالمي الثاني للسياسة، معبرين عن إشادتنا باختياركم المغرب، أرض السلام والانفتاح، لاحتضانه. وكما تعلمون، فإن هذا المؤتمر الهام، يلتئم في سياق مطبوع بتحولات عميقة، ومشحون بتوجهات بالغة التعقيد.
وإذا كانت الأزمة المالية والاقتصادية، التي ضربت مختلف الأسواق العالمية الرئيسية، قد أثارت جملة من التساؤلات، مبرزة ضرورة إعادة النظر في أسس النظام الاقتصادي العالمي ؛ فإنها تستحث الجميع على العمل بحرص للحيلولة دون تحولها إلى أزمة اجتماعية وسياسية مزمنة.
لقد هزت هذه الأزمة غير المسبوقة بقوة، أركان نظام كان العالم يؤمن باستمراريته، لاسيما في ظل الاندفاع نحو الليبرالية. بيد أن انهيار بعض أبرز المؤسسات المالية العالمية، واستفحال أزمة الائتمان، فضلا عن التجاوزات الناجمة عن التحرر المفرط من التأطير القانوني ؛ كلها عوامل أدت إلى التشكيك الواضح في أسطورة نظام ليبرالي صلب وشمولي ؛ حيث أظهرت الاختلالات الكبيرة، التي أفرزتها هذه الظرفية، محدودية الرؤية القائمة على نهاية التاريخ بانتصار الليبرالية، والمبنية على السلطة المطلقة للسوق، وعن تخلي الدول عن مسؤولياتها الضبطية والاستراتيجية.
كما أنها أبانت أن العالم اليوم، في حاجة ملحة إلى عودة الدولة، ليس تلكم الدولة الشمولية، بل الدولة الاستراتيجية، الديمقراطية العصرية، والمنظمة للسوق. وهو الدور الذي حجبته الإنجازات الكبرى للانفتاح الليبرالي.وبموازاة ذلك، فإن ضرورة عودة الدولة يواكبها تنامي الوعي بالحاجة إلى حكامة عالمية شاملة ومنصفة، قادرة على هيكلة الأسواق المعولمة الجامحة، والتحكم في القوى الفاعلة فيها.
وأمام هذا المد الذي ضرب الاقتصاد العالمي، فإن المغرب كان في طليعة الدول القلائل، التي استعدت لمواجهة الأزمة، وعملت قدر استطاعتها، على معالجة هذه القضايا المصيرية.
وعلى الرغم من كون المغرب اعتمد مبكراً نظام الاقتصاد الليبرالي المنفتح، وانخرط فيه، فإنه يحرص دوما على عدم الانسياق وراء تجاوزات الليبرالية في شكلها المتوحش، الذي لا ينبغي أن يكون مدعاة لإنكار الدور التاريخي لليبرالية في تحرير وتقدم الإنسانية.
ومن هنا، فقد تمكنت بلادنا، بفضل نظام مالي ومصرفي مهيكل ومنظم، واقتصاد متوازن، مبني على الزراعة وعلى التنوع الصناعي، من التحكم في تداعيات التقلبات الاقتصادية، التي هزت العالم بأسره، بل والحد، نسبيا، من انعكاساتها السلبية.فقبل ظهور الأزمة بوقت طويل، كان المغرب سباقا للعمل بما يمكن تسميته "بالحكامة الإنسانية"، أي بنظام يحد من انعكاسات العولمة، التي اجتاحت العالم خلال العقود الأخيرة، بل ويجعلها أكثر إنسانية.
ومن ثم، كان حرصه على الانكباب على عدد من القضايا والأخذ بتوجهات رئيسية، أثبتت فيما بعد أهميتها البالغة، وملاءمتها للوضع الحالي. وبتوفيق من الله، والتزام راسخ باختيارات وسطية، وتجاوب عميق مع التطلعات الحقيقية والمشروعة لمواطنينا وقواهم الحية، وتضامن ملموس مع الجهات والفئات المحرومة، وانخراط فاعل في عصرنا، اتخذنا عدة مبادرات مقدامة، وحققنا مكاسب هامة، لا يشكل الإتيان على ذكر بعضها تفاخرا، وإنما وعيا مسؤولا بأهمية التقدم المحرز. بل إننا نعتبره، قبل ذلك، حافزا على المضي قدما، بحزم وعزم، في الطريق الشاق والطويل، اللازم لاستكمال بناء مغرب موحد وديمقراطي ومتقدم وعصري.منطلقنا في ذلك، أن السياسة بمفهومها النبيل لم ولن تموت، لأنها من كينونة الإنسان، ولأنها فن الممكن، وجوهر الديمقراطية ؛ بل إنها تزداد ارتباطا بالناس، كلما تخلصت من السياسة السياسوية، وقيامها على المشاركة الواسعة والقرب والحكامة الجيدة والمواطنة الكونية.
ومن ثم كان مذهبنا في الحكم يقوم على توطيد الدولة القوية بسيادة القانون، والديمقراطية التشاركية، وترسيخ حقوق الإنسان في أبعادها الشمولية، وجعل الإنسان في صلب التنمية، بإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، لمحاربة الفقر والهشاشة والإقصاء والتهميش. وذلك بموازاة مع سياسة أوراش كبرى، وبرامج ومشاريع ومخططات مهيكلة، ممولة أساسا باستثمارات عمومية هائلة ؛ وكذا انتهاج الحكامة الجهوية والترابية، واقتراح المبادرة المقدامة للحكم الذاتي، وإطلاق الإصلاح العميق للقضاء، والانخراط الفاعل في الحوار بين الأديان، والدفاع عن القيم الروحية والإنسانية المثلى للتسامح والاعتدال والتضامن والإخاء، ضد كافة أشكال التطرف والعنف والانغلاق.
حضرات السيدات والسادة،
 لقد أظهرت الأزمة الراهنة محدودية النماذج النمطية والتبعية المالية، في غياب أي تدقيق في هذه النماذج وممارساتها.كما أكدت أهمية التنوع، سواء تعلق الأمر بالقضايا البشرية، أو بالأفكار والثقافات، ومحيطها الطبيعي. وهي بذلك، إنما أبرزت الحاجة إلى عولمة موسعة، إدماجية وتشاركية، حريصة على الإنصات للأصوات المعارضة، والانفتاح على الاختيارات المختلفة.
ومن هذا المنطلق، فإنه يمكن اعتبار هذه الأزمة، على الأرجح، بمثابة النقمة التي في طيها نعمة، متى استطاع العالم إعادة النظر في طرق التحليل، وفي أنماط التفكير السائدة، وتمكن من تجاوز العقبات الفكرية، التي ساهمت في انهيار قطاعات بأكملها من الاقتصاد الدولي.
فما أحوج الإنسانية اليوم، إلى أنماط مركبة من التفكير، لتنوير عالم يكاد يغرق في الظلام، بفعل مقاربات سطحية وتبسيطية، ولتفادي الخيارات القائمة على الثنائية التعارضية بين الدولة والسوق، والحسابات الفارغة، وذلك لإعادة الاعتبار للخيار الوحيد الواقعي والطموح. إنه خيار الدولة التي تؤطر وتنظم وتساعد، وتساهم بالتالي في تحرير الطاقات، وتفتح المجال فسيحا أمام حركية السوق.
ولتحديد هذه الرؤية المتجددة وإشاعتها، والدفع قدما بالتفكير الجاد والمعمق في كافة أبعادها، واستشراف الحلول الوجيهة الممكنة لبلورتها، فإن المغرب يتطلع بكل اهتمام، للإسهامات القيمة لمؤتمركم الهام ؛ بالنظر لمؤهلاتكم الفكرية، وخبرتكم الواسعة، ولما راكمتموه من تجربة غنية في مجالات عملكم ودائرة انشغالاتكم.
فقد سبق لكم أن سلطتم الضوء على المخاطر الناجمة عن عولمة ناقصة، وعلى الإشكالات المتعلقة بعدم ملاءمة آليات الحكامة العالمية.
وبموازاة ذلك، ما فتئتم تذكرون بمحدودية الفكر الليبرالي الوحيد، ومخاطر النماذج النمطية، والمأزق الذي يؤدي إليه التشابه البنيوي للأفكار وخلطها. وذلك بفعل تواطؤ النخب أو تلكؤها، أو استقالتها عن القيام بدورها الطليعي في إضفاء طابع إنساني وإيجابي على التحولات العالمية، باستباقها وحسن قراءتها، والنهوض بدور ملموس، في بلورة وتفعيل حلولها وخلاصاتها على أرض الواقع، بكفاءة وتجرد وحكمة وحنكة.
وتلكم سبيلكم للدعوة الصادقة والمساهمة البناءة في الإقرار بضرورة التنوع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والعمل على ترسيخ فضيلة الانفتاح، وإقناع الآخر بالأخذ به، والدفع في اتجاه إعادة تركيز النقاش على الدول، بصفة عامة، وعلى بلدان الجنوب، بصفة خاصة.
ونود بهذه المناسبة، أن ندعوكم إلى تعميق التفكير والنقاش، في إغناء هذا النهج العالمي، وتعزيزه بأبعاد إنسانية وروحية، وكذا الأخذ بعين الاعتبار التحديات المعقدة والمتداخلة التي تواجه البشرية.
كما نحثكم على إضفاء بعد أوسع على مقاربتكم، بالتوجه نحو دول الجنوب، وذلك بربط التفكير القائم حاليا حول منطقة البحر الأبيض المتوسط، برهانات القارة الإفريقية، من خلال إدماج القضايا المتصلة بنماذج جديدة من التفكير، قوامها توطيد وحدة وسيادة ومناعة الدول، واندماجها الإقليمي، ضد التخلف والتجزئة والإرهاب وعدم الاستقرار، ومحاربة نزوعات الهيمنة، وخلق كيانات هشة لا مكان لها في عصر التكتلات القوية ؛ وعمادها الحكامة الجيدة، والتركيز على الإشكالات الكبرى المرتبطة بالفلاحة والماء والطاقة، والتغذية والصحة، والمناخ والبيئة، في صلب هذا النقاش البناء.
وفي هذا السياق، فإن الضرورة الملحة لتقنين وضبط اقتصادي جديد، ولإعادة النظر جذريا في التوازنات الجيو-سياسية، ليست ضربا من ضروب المزايدة. ذلك أن كثافة وتنوع العلاقات بين الدول والشعوب، تضع على المحك السلام والاستقرار الدوليين، بل وحياة ومصير البشرية جمعاء.
ومن هذا المنطلق، فقد أضحى تدبير العلاقات الدولية يتطلب حكامة قائمة على العدل والانضباط، تهدف إلى إرساء أسس "مشروع مجتمع كوني"، يستند إلى آليات تشاركية في اتخاذ القرار، واعتماد مقومات روحية مثل النية. وهو مفهوم يكتسي بعداً أساسيا في الإسلام، بحيث تتداخل في جوهره عوامل الإرادة والصدق والإيمان.
وعلى عكس ما كان عليه الوضع من قبل، فإن هذا المشروع لا يجدر أن يتم التعامل معه كقرار مفروض من فوق ؛ وإنما يتعين أن يكون نتاج مسار بنيوي، سياسي وحضاري، قادر على ضمان سلام دائم، قائم على الإرادة السياسية، والحق في علاقات متبادلة، وعلى مبدإ احترام التنوع.
إن الهدف من انتهاج هذه المقاربة، التي لا محيد عنها، يتمثل في بلوغ الكونية، انطلاقا من الخصوصية، دون النزوع نحو القضاء عليها. فتحقيق السلام الشامل، الذي تم التنظير له منذ أزيد من قرنين من الزمن، يظل مشروعا مطروحا باستمرار، كأفق سياسي، بل واختيار قابل للإنجاز، على المدى المتوسط، إذا ما نحن وفرنا له الوسائل الضرورية، ضمن مقاربة واقعية وطموحة.
ومن هذا المنظور، نؤكد عزم المغرب على الانخراط في هذا التوجه القوي، الذي يحمل في طياته بوادر إعادة تنظيم جذري للقوى السياسية، ولقواعد العمل الاقتصادية، وللممارسات الاجتماعية، ولحركية ودينامية الأفكار. وعلى الرغم من أن "الكونية" ما تزال شأنا حديثا في مختلف أرجاء العالم، فإن المغرب يتطلع إلى "كونية جديدة، عادلة وتشاركية وأكثر إنسانية"، تعيد التوازن للعالم، وتتيح مصالحته مع ذاته ؛ وذلك بإعطاء معنى لتوجهاته، وإذكاء روح الثقة فيه.
ولهذه الغاية، يتعين العمل على جعل هذا التحدي مسؤولية جماعية، وقضية كل الدول، ومختلف الفاعلين، كيفما كان وزنهم، وذلك للدفع قدما بمشروع متجدد وغير مسبوق، "مشروع مجتمع كوني"، يمكننا من مد الجسور مع روح عصر الأنوار، كما جسده إيمانويل كانط، ومع عصر ابن خلدون، أول منظر للتاريخ العالمي للحضارات. وبذلك نضع القاطرة على السكة الصحيحة، نحو تحقيق هدف أسمى، ألا وهو جعل "الكونية" أكثر إنسانية وعالمية.
وإذ نتطلع بكامل الاهتمام، إلى ما سيثمره هذا المؤتمر الهام، من مقترحات وتوصيات بناءة، فإننا نرحب بالمشاركين المرموقين فيه، معربين لكم عن أجمل متمنياتنا بالمقام الطيب بين ظهرانينا، وفي رحاب أرض مراكش الحمراء. هذه المدينة التاريخية الوطنية والعالمية، والتي تجسد بمعالمها الحضارية والثقافية، وبتطورها المعاصر، رمزا للتآلف الإنساني المنشود، وقبلة للعاملين عليه ؛ ومنوهين في الختام بمنظميه.
أعانكم الله، وكلل أشغالكم بالتوفيق.والسلام عليكم ورحمته الله تعالى وبركاته".