نص الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة إلى المشاركين في الدورة ال27 لمنتدى أصيلة الثقافي الدولي

أصيلة يوم 05/08/2005

"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه،
أصحاب المعالي الوزراء،
السادة الأساتذة المشاركين،
حضرات السيدات والسادة، يطيب لنا أن نتوجه إلى منتدى أصيلة المرموق،
للتعبير عما يخامرنا من تقدير وارتياح، لعقد دورته هذه، مرحبين بالشخصيات الفذة المشاركة فيه، ومنوهين بما لهم من مكانة متميزة، في عالم الفكر والسياسة والاقتصاد والإعلام. وإن المغرب لمعتز بالدور الذي أصبح ينهض به، كأرض لحوار الثقافات وتفاعل الحضارات، وترسيخ القيم الكونية، والذي تساهم في تجسيده العديد من الفعاليات الوطنية، ومن بينها مؤسسة منتدى أصيلة، وجامعة المعتمد بن عباد الصيفية. ونود في هذا السياق، أن نشيد بمبادراتها البناءة، وباختيارها موضوعا هاما لندواتها، يتعلق بالقارة الإفريقية، والمساءلة عن مستقبلها، في سياق الأوضاع القارية والعالمية الراهنة. وإنه لتوجه يحظى لدينا بأهمية قصوى، في سياق الاهتمام الموصول والإسهام الفعال، اللذين ما فتئ المغرب يجسدهما على أرض الواقع، من أجل تقدم وتنمية قارة، ينتمي إليها، بجذوره الضاربة في عمق تاريخها وثقافاتها. بل ويجعل من انتمائه إليها بعداً من أبعاد هويته، كما ينص على ذلك دستور المملكة، معتبراً أن تحقيق الوحدة الإفريقية هدف من بين أهدافه الثابتة. فعلى أرضه، بمدينة الدار البيضاء، انعقدت في بداية الستينيات، من القرن المنصرم، أول قمة إفريقية، بدعوة من جدنا المنعم، جلالة المغفور له الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، وبمشاركة عدد من أشقائه، قادة الدول الإفريقية التقدمية المستقلة يومذاك. ثم تابع والدنا المغفور له، جلالة الملك الحسن الثاني، نوّر الله ضريحه، مسيرة العمل الإفريقي المشترك، بكل إيمان وإخلاص وثبات. وقد احتضن المغرب في عهده، على مدى العقود المتوالية، عدداً من القمم والمؤتمرات الإفريقية، التي رسخت حضور إفريقيا، ورفعت صوتها عاليا، داخل المنتظم الأممي، بعد انعتاقها من الاستعمار. لقد وجدت كل البلدان الإفريقية، غداة كسبها لمعركة استقلالها السياسي، التي خاضتها ضد الآخر، في مواجهة التحدي الأكبر، لمعركة شاقة وطويلة. إنها معركة بناء الدولة الوطنية، وتحصين الذات، والانخراط الحر والإيجابي، في مسار عالم تطبعه المتغيرات المتسارعة، والتحولات العميقة، والتطور المتلاحق، والذي لا يستطيع أي بلد أن يضمن مصالحه الحيوية فيه، إلا في إطار التجمعات والتكتلات الإقليمية والجهوية. وبفعل العلاقات الدولية الجديدة المتنامية، وضرورة مسايرة الإيقاع السريع، للإفادة من العلوم والتكنولوجيا المتطورة، ولاسيما في مجال اكتساب تقنيات المعلوميات والاتصال، والانخراط في القيم الكونية، التي تعد آليات أساسية لتحقيق التنمية والرخاء، أصبحت القارة الإفريقية تواجه رهانات عويصة، بسبب تخلفها في إنجاز الإصلاحات الضرورية، لتقدم شعوبها وتنميتها. وكان لوقوع الكثير من بلدانها في التبعية لإحدى القوتين العظميين، خلال أيام الحرب الباردة، أثره البعيد، في جعلها تغوص في مستنقعات البلقنة والصراعات العرقية، والفقر والتخلف بكل مظاهره، مع تفشي المجاعات المزمنة والأوبئة الفتاكة، وتراكم المديونية.
" وقد زادت العوامل البيئية السلبية، كالتصحر والجفاف، وتقلص الأراضي الزراعية، هذه الأوضاع المتدهورة هشاشة وتفاقما، مما يجعل التساؤل عن مستقبل إفريقيا اليوم، تساؤلا مشروعا، جديراً بأن ينشغل به، إلى جانب الحكومات الوطنية للبلدان الإفريقية، كل فعاليات المجتمع المدني فيها، وفي مقدمتها النخب الثقافية. بل وحريا بأن يعمق الوعي بطبيعة هذه التحديات، وبضرورة تعبئة كل القوى الممكنة، للخروج بقارتنا، التي نحن منها وإليها، من نفق السير نحو المجهول.
من هنا تبرز أهمية ندوتكم اليوم، التي ستنكب على تحليل هذا الواقع، واستشراف آفاق المستقبل، بروح المسؤولية والالتزام، واقتراح السبل الكفيلة بإنقاذ إفريقيا من معاناتها. وذلك عن طريق إطلاق المبادرات التنموية الشاملة والمستدامة، وتوفير شروط الاستقرار والديمقراطية الضرورية لها، وحشد كل إمكاناتها في تكامل وانسجام، لبلوغ هذه الغايات.
وفي هذا الصدد، ستواجهون، حضرات السيدات والسادة، تساؤلات وإشكاليات، تتداخل فيها العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتستلزم إجابات مقنعة، قائمة على توجهات استراتيجية واضحة، تنفذ إلى أسباب العجز والتخلف، في هذه القارة المرهقة بشتى أشكال المعاناة.
ومهما تكن التحليلات القيّمة، التي سيتمخض عنها حواركم الموضوعي الهادف، والتي ستشكل إضاءات على درب وضع السياسات الملائمة، الكفيلة بالنهوض بقارتنا، فإن الهدف الذي يجب أن تتوخاه جهود كل الفرقاء والفاعلين في القطاعين العام والخاص، وفي كل أوراش العمل السياسي والاقتصادي والثقافي والإعلامي، من أجل إفريقيا ناهضة من كبوتها، قوية بأبنائها، هو اعتماد إصلاحات بنيوية عميقة، قائمة على ثلاثة مرتكزات، وهي التنمية المستدامة للموارد البشرية، والتحديث للهياكل والمؤسسات الوطنية، وإشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والمواطنة الإيجابية، والتضامن الفاعل، وهي الركائز التي اعتمدها المغرب في تجربته منذ استقلاله، والتي عملنا منذ اعتلائنا العرش، على إعطائها نقلة نوعية، باتخاذ مبادرات رائدة ومتميزة في مجال التنمية، وتحديث المؤسسات، وتأهيل الموارد البشرية، التي أطلقنا بشأنها مبادرة وطنية استراتيجية طموحة، فضلا عن تحقيق المصالحة الشاملة، بكيفية تعيد الاعتبار لكل مكونات هويتها الوطنية الموحدة، الغنية بتعدد روافدها العريقة والعصرية، وتحرر الطاقات، للسير قدما في بناء مغرب وفيٍّ لثوابته وهويته، منفتح على عصره، متعاون ومتضامن مع أشقائه وأصدقائه، مساهم بفعالية في إقرار السلم والتعايش في العالم.
حضرات السيدات والسادة،
لقد أسفرت كل التجارب التي عرفتها القارة، في مجال التعاون مع الآخر، عن اقتناع راسخ بكون التنمية التي ننشدها لقارتنا، يجب أن تنطلق أساساً من الذات، وأن تجسد ذلك بالتفعيل الأمثل للتعاون الإفريقي - الإفريقي، كمدخل لتأهيل قارتنا، إلى تحقيق الاندماج التدريجي لاقتصادياتها، وانخراطها في التنمية بمؤهلاتها الذاتية، وديناميتها الخلاقة.
وفي هذا السياق، ظل المغرب يثمّن التوجه إلى التكتلات الإقليمية الجديدة، باعتبارها تشكل آلية ناجعة لتحقيق الإقلاع التنموي والاقتصادي، ورفع التحديات الراهنة، الكامنة في تهميش القارة، وفي تداعيات العولمة، المضرة باقتصادياتها الوطنية. فهذه التجمعات الإقليمية أو الجهوية هي الجسر الوحيد، للمرور إلى التعاون القاري، فالدولي، الذي يتجه فيه العالم.
ومن جانبه، فإن المغرب لم يفتأ يسعى إلى تفعيل هياكل اتحاد المغرب العربي، كتجمع جهوي، له وزنه الفاعل في الحوار المتوسطي، وكلبنة هامة في قيام تكتل إقليمي إفريقي واعد. كما أنه لم يتردد في دعم مبادرة النيباد الواعدة، باعتبارها تجسد الإرادة الذاتية لتحقيق التنمية الشاملة لإفريقيا، انطلاقا من إمكاناتها وعبقرية أبنائها، وكذا مساندة منظمة تجمع دول الساحل والصحراء، واضعاً عددا من لبنات الشراكة والتعاون مع دول إفريقية في الساحل والمنطقة الغربية للقارة، يقينا منا بأنه مهما تكن أهمية المساعدات الخارجية الموجهة للدول الإفريقية، فإن التعويل بالأساس، يجب أن يكون على الإمكانات والقدرات الذاتية، مثلما يجب أن تكون الإصلاحات المنشودة في جميع المجالات، نابعة من خصوصيات كل بلد إفريقي، وبمنأى من الوقوع تحت الهيمنة أو الاستغلال، ورهن المستقبل بتجميد الحاضر، أو تعطيل حركيته لحسابات سياسوية أو أنانيات مغرورة. وفي هذا الصدد نؤكد، مرة أخرى، على أن المرور إلى بناء مستقبل إفريقي قوي الأركان، يستجيب لتطلعات شعوبنا، بأكثر ما يمكن من الواقعية والحكمة والفعالية، لا بد أن يمر عبر الاحترام الفعلي واللامشروط، لوحدة الدول الإفريقية، واستقلالها وسيادتها على ترابها الوطني، وبالإجماع من لدن دولها، على مواجهة البلقنة والحركات الانفصالية.
فالتنمية المستدامة الحقيقية، وبناء التجمعات الإقليمية القوية، لا يمكن أن يكون لهما وجود، إلا في مناخ من الاستقرار والأمن والتضامن الفعلي، وتحقيق حسن الجوار.
ويبقى هدفنا الأسمى هو تفعيل تنمية بشرية حقيقية، تنبع من متطلبات مجتمعاتنا، وتطلعاتها إلى عيش كريم وحياة أفضل، فالإنسان يبقى، أولا وأخيرا، هو الثروة الحقيقية لأوطاننا ولكافة مشاريعنا التنموية.
وإن ملتقاكم الذي يضم شخصيات ثقافية متميزة ، لدليل على عمق وعيكم بالدور الذي يمكن أن تنهض به الفعاليات الفكرية، في مجال تنمية الموارد البشرية، وما يمكن أن تقوم به هيآت المجتمع المدني، باعتبارها متكاملة مع عمل الدولة، ومؤطرة للحياة الديمقراطية، وضامنة لمبدإ التعايش والتجانس. وبذلكم تظل النخبة المثقفة بمثابة المحرك الطبيعي لدينامية المجتمعات الإفريقية بالرؤى المتجددة والخلاقة، التي تعد من الروافد التي تصب في الحياة السياسية، الهادفة إلى تمثيل إرادة المجتمعات وتأطيرها. ذلكم أن التنمية المنشودة لبلداننا الإفريقية لن تتحقق إلا بجعل أوراشها السياسية والاقتصادية والاجتماعية متكاملة، يشد بعضها بعضا، وتتحرك في كل ميادينها بروح مشتركة. ولن يتأتى ذلك إلا بجعل الثقافة بكل آلياتها المؤسسية والإعلامية بمثابة القاطرة المحركة لهذه الأوراش؛ ثقافة تشيع التضامن الإفريقي والتعبئة والتعاون والإبداع؛ ثقافة تعطي للآخر صورة إيجابية جديدة عن إفريقيا والأفارقة، جديرة بالثقة والأمل الوطيد في غد أفضل.
وإذ نرحب بكل ضيوفنا الكرام، أصحاب المعالي الوزراء الأفارقة، والمفكرين والإعلاميين المرموقين، ونمتن لاختيارهم المغرب منبرا إفريقيا حرا للفكر المسؤول والملتزم، فإننا ندعو لملتقاكم بالتوفيق والنجاح.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته