نص الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس للاجتماع الوزاري التاسع لمجموعة 77

مراكش يوم 14/09/1999

"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
أصحاب السعادة والمندوبين المحترمين
أيها السادة والسيدات
منذ خمس سنوات خلت وفي هذا المكان الذي أنتم مجتمعون فيه اليوم أقرت المجموعة الدولية الاتفاق الذي تم بمقتضاه إنشاء المنظمة العالمية للتجارة و الكثيرون منكم ساهموا بفعالية في بروز هذه الهيئة التي أذكت آمالا لم يسبق لها نظير لدى الدول السائرة في طريق النمو.
ولقد افترقنا في مدينة مراكش هذه ونحن واثقون بأننا قد وضعنا أسس نظام تجاري متعدد الأطراف ينبني على ركيزة القانون ويكرس التوافق كأسلوب للتدبير واتخاذ القرار. ولقد التزم كل منا وبصفة رسمية باستعمال كل ما من شأنه أن يدفع بعجلة النمو الاقتصادي ويوسع الاستفادة من التقدم التكنولوجي ومن مجتمع الإعلام.
وقد كان هذا الالتزام يرمي بالخصوص إلى إزاحة العوائق التي تعترض اندماج العالم السائر في طريق النمو في الاقتصاد الشمولي.
وإننا إذ نرحب بكم في مدينة مراكش التاريخية نهيب بكم إلى اغتنام فرصة هذا المؤتمر لتقييم موضوعي لمكاسب وحصيلة الدورة التاسعة لمنظمة الأمـم المتحدة للتجارة والتنمية وكذا أوفاق مراكش وكل المبادرات التي اتخذت من طرف المجموعة الدولية للحد من الفقر وكبح مسلسل تهميش المعوزين وعودة الإنصاف إلى نظامنا الاقتصادي المتعدد الأطراف.
وعلى بضع أسابيع من ملتقى "سيتل" وقبل الاجتماع السنوي لمؤسسات بروتن وودز والجمعية العامة للأمم المتحدة نعتبر أنه من الأساسي أن يوجه جمعكم خطابا واضحا للمجموعة الدولية حول أهمية التحديات التي نواجهها وعلى ردود الفعل الناجمة عن إحساس باليأس التي نلاحظها هنا وهناك وبالشكل الذي أخذ يتسرب إلى الأذهان حول طريقتنا في البحت عن التنمية الدائمة.
فقد تمكنا طيلة ثلاثة عقود خلال الملتقيات المتعددة الأطراف الخاصة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية للإنسانية من التوصل برغم كل التقلبات إلى الإجماع الضروري لتقديم الحلول الوجيهة لمشاكل التخلف.
لقد تحقق بالفعل تقدم في العديد من الميادين ولكن يجب أن نلاحظ أن الطريق لازال طويلا ومضنيا.
إن الفوارق بين الساكنة الغنية والساكنة الفقيرة لازالت تتسع بصفة قاسية كما أن ثقل المديونية يمتص موارد ما أحوجنا إليها لتمويل البرامج الموجهة ليس لإنعاش التنمية الاقتصادية بل بالأحرى لضمان بقاء ساكنة تزيد هشاشة باستمرار وهناك مؤشرات أخرى كثيرة يمكن سردها لإثبات هذه الحالة التي تميز اليوم العالم النامي.
وبرغم هذا لم يشك أحد في مبادئ الترابط المتبادل والتضامن واقتسام عبء التخلف إذ لا أحد يتجاهل المخاطر التي يشكلها الإقصاء واليأس بالنسبة للأمن والسلام في العالم.
كيف يمكن إذن على سبيل المثال تفسير أن الالتزام بتخصيص 7.0 في المائة من الناتج الداخلي الخام كمساعدة للتنمية لم يوفى به قط.
وهل الانخفاض المستمر لمستوى المساعدة "أ بي دى" يعتبر نقضا لهذا الالتزام أم أن الهدف المؤكد مرارا يفقد في الواقع وجاهته. كيف يمكن تفهم وتقبل الإبقاء على التدابير ذات الطابع الحمائي التي تطال أموالا ومنتوجات وخدمات تتوفر فيها الدول السائرة في طريق النمو على امتياز تنافسي جلي في الوقت الذي نجد فيه أن هدفنا المشترك هو بناء نظام تجاري منصف. أو كيف يمكن تسريع وتيرة نمو البلدان الفقيرة بدون التحسين الجوهري والملموس لولوج الأسواق العالمية وبدون تقييم مناسب للفعالية الحقيقية للاجراءات التفضيلية الأحادية الجانب".
"وكيف نستغرب أنه في الوقت الذي يقر فيه العالم بأسره بأن التنمية الاقتصادية وثيقة الصلة بالتنمية البشرية فإن ضغوطا قوية في مجال الهجرة لا تمارس على السوق العالمي للشغل.
وكيف نفسر الموقف المتهيب المتخذ في معالجة مسألة أساسية مثل المديونية عندما نعرف أن خدمتها تعد في حد ذاتها كابحا للتنمية وبأن المعدلات الضعيفة لتدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة لا تسهم في التخفيف من انعكاساتها السلبية.
إن هذه القضايا وغيرها التي تسائلنا يوميا تأخذ منحى عصيبا في الوقت الذي قام فيه العالم النامي بتحول مهم في سياساته الاقتصادية وإصلاح عميق لمؤسساته السياسية للاستجابة للشروط المتعددة التي كانت وراء مختلف البرامج والآليات للدعم الاقتصادي سواء منه الثنائي أو المتعدد الأطراف.
وفي غياب نتائج ملموسة على مستوى تحسين ظروف عيش السكان المحرومين والاستجابة ذات المصداقية للبطالة المتفشية فإن التخوف ينتصب حول حظوظ هذه الإصلاحات في الاستمرار.
إن عدم الاستقرار السياسي و اتساع بؤر التوتر والعنف والانعكاسات الاجتماعية للأزمة الأسيوية تدل بداهة على أن درجة تحمل التضحيات تتضاءل حتما.
ويحق لنا بصفة خاصة التساؤل عن جدوى الأهداف المتفق عليها منذ أمد بعيد و لتي لم تكن موضع أي تنفيذ مرض بل والتساؤل أيضا عن جدوى الاستمرار في المحافظة عليها ضمن جدول أعمالنا وبصيغتها الأصلية.
إننا نواجه في النهاية تعرض الاقتصاد العالمي لخلل وظيفي كبير. هذا الاقتصاد الذي صار أكثر من أي وقت مضى مطالبا بوضع آليات إجرائية من شأنها أن تدعم وأن تضمن في نفس الوقت تماسكا حقيقيا بين التفكير والاستراتيجية والممارسة بالنسبة لسائر المنظمات الدولية المكلفة بالشؤون الاقتصادية والتجارية و المالية.
لقد كان والدنا المنعم صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني تغمده الله برحمته قد أكد هذا المطلب الضروري في خطابه عند اختتام الاجتماع الوزاري للغات بمراكش عندما اقترح إنشاء فريق عمل مكون من مختلف الحكومات للتفكير في آليات جديدة للمفاوضات الاقتصادية الدولية. وتبدو لنا دعوته هاته أكثر ضرورة من ذي قبل ويمكنها أن تستحث خطانا الجماعية متطلعين إلى ترسيخ الاقتصاد العالمي على قواعد متجددة في مطلع الألفية الثالثة..
إن إعادة بناء المؤسسات متعددة الأطراف في هذا السياق ليعتبر أولوية ومطلبا أساسيا من أجل مقاربة جديدة تعطي الأولوية لمبادئ الإنصاف والتضامن والسلوك الأخلاقي وكذا لشراكة تستمد مبرر وجودها من قيم الترابط المتبادل والمسؤولية المتقاسمة.
وهنا نتساءل .. كيف يمكن إشراك جميع الفاعلين بطريقة أو بأخرى في عالم يزداد تداخلا واندماجا وحيث تشكل المبادرة الخاصة الوطنية أو المتعددة الأطراف المحور المحرك لعجلات الاقتصاد العالمي وحيث المجتمع المدني يزداد تأثيرا من خلال تكاثر المنظمات غير الحكومية في اتخاذ القرار من لدن الدول ذات السيادة.
وفي هذا السياق الفكري ألا يجب إعادة النظر في مكانة ودور الدول السائرة في طريق النمو في المفاوضات الدولية الكبرى بطريقة تحول دون جعلها سجينة دور المتفرج السلبي.
كما يجدر التساؤل على وجود إدراج المعالجة الخصوصية والعاجلة لمشاكل إفريقيا على وجه الخصوص والبلدان الأقل نموا بصفة عامة ضمن المؤشرات الأولية الملموسة لالتزام صادق من أجل شراكة متجددة ومتمركزة أشد ما يكون التمركز نحو التنمية البشرية.
إننا بإثارتنا لهذه المسائل نريد في الواقع إعادة التأكيد على قناعتنا بأن التخلف ليس في حد ذاته قدرا محتوما. وبدل أن تشكل مختلف أنواع التحولات التي يعرفها العالم على مشارف القرن الحادي والعشرين تهديدات إضافية للاقتصاديات الهشة مثل اقتصادياتنا فإن هذه التحولات تمنحنا في الواقع فرصا جديدة يتعين علينا انتهازها.
ولن نتمكن من الانتفاع من هذا المعطى الاقتصادي الدولي إلا بالتكيف الضروري لمؤسساتنا المتعددة الأطراف ومناهج عملنا وتصوراتنا للتنمية مع ما يتطلبه ذلكم المعطى.
ومن مسؤوليتنا في هذا المضمار أن نغتنم اجتماعنا هذا لإرسال إشارات قوية إلى شركائنا كي ننصهر جميعا ومن الآن في مسلسل حقيقي يتسم بالفضيلة للسير قدما في طريق التقدم والتنمية والازدهار المشترك. وهو ما كنا قد توخيناه هنا بمراكش منذ خمس سنوات خلت ومن هنا وبهذه المدينة يجدر بنا أن نحقق وثبة جديدة لبلوغ أهدافنا المشتركة.
لذا وكما كنا قد أكدنا عليه خلال الذكرى الخمسينية للغات "الاتفاقيات العامة للتجارة والتعرفة" بجنيف وفي أفق الاستحقاقات المتعددة الأطراف المقبلة التي تتزامن وبزوغ الألفية الجديدة. فلنعمل على وضع جدول عمل مفتوح يمكننا من إدماج كل إجراء وكل عمل وكل مبادرة من شأنها أن تشكل حلا إراديا للاختلالات والصعوبات التي تشغل بالنا.
إن المملكة المغربية ووفاء لتقاليدها القائمة على قيم الحوار والتفاهم المتبادل عاقدة العزم على الإسهام الكامل في قيام نظام متعدد الأطراف أكثر انفتاحا وعلى العمل لأجل نظام مرتقب وشفاف وعادل.
وشكرا لكم على حسن انتباهكم.
والسلام عليكم.
وحرر بالقصر الملكي بمراكش يوم ثاني جمادى الثانية 1420 هجرية المواقف ل 13 شتنبر 1999 .