نص الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في ندوة ''جلالة الملك الحسن الثاني.. حياة وأمجاد''

الرباط يوم 06/07/2000

''الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
حضرات السيدات والسادة
يطيب لنا أن نبارك هذه المبادرة الطيبة لجمعية رباط الفتح التي أبت إلا أن تخلد الذكرى الأولى لوفاة المشمول بعفو الله ورضوانه والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه وأكرم مثواه. الذي مازالت مآقينا لم تجف من الدموع على فراقه ومازالت قلوبنا وقلوب شعبنا والهة إثر رحيله الذي لا رد لقضاء الله فيه. إن روحه الطاهرة لترفرف علينا وعلى أفئدة شعبنا وعلى ربوع مملكتنا التي كرس – قدس الله روحه – حياته للذود عنها واستكمال وحدتها وإحلالها المكانة اللائقة بها بين الأمم المرموقة والدول المتقدمة.
و لا يخامرنا شك في أن هذه الندوة الدولية عن حياة هذا الملك العظيم وعن سيرته الرائدة وأمجاده الفاخرة ومنجزاته العظيمة ستساهم في استجلاء الكثير من المناقب التي تحلى بها واستحضار العديد من الخصال والفضائل التي ازدانت بها سيرته العطرة. فقد كان رحمه الله منبعا للمكرمات لا ينضب له معين ومنجما للفضائل لا ينفد له مدد. بيد أن الأهم من استحضارنا اليوم هذه الذكرى لهو بالتأكيد العمل على استخلاص العبر من حياته المجاهدة وسياسته البناءة وقيادته التي تحدت الصعاب وتغلبت على المشكلات بفضل سياسته الحكيمة وصموده الراسخ وتعلقه بحب شعبه والتفاني فيه بقدر ما كان لهذا الشعب من تعلق بالعرش وولاء ووفاء للمتربع عليه. لقد كانت حياته خالدة بمآثرها ومنجزاته التي نعيش اليوم نتائجها ونسعى لمتابعتها. ففي كل فن من فنون الحكم والتدبير كان له – رحمه الله – باع طويل ودراية واسعة وحدس قل نظيره مما بوأه مكانة متميزة بين قادة العالم جعلت منه منارة إشعاع يهتدي بقبسها في كل أمر صعب أو نازلة مستجدة سواء بالنسبة للقضايا الوطنية أو بالنسبة للشؤون الدولية.
لقد ظل طوال حياته رائدا ملهما وقائدا حكيما لا يدخر وسعا في إسعاد أمته والتجاوب مع مطامحها وتطلعاتها مسلحا بالحكمة والاعتدال وبمنهج التوافق والحوار حريصا على القيام بأعباء مملكته يدير شؤون الدولة بروية وتبصر ونزاهة وتدبر وفق سياسة واضحة تستمد نقائها من إيمانه العميق بقيم الإسلام المثلى وسماحته ونبل مقاصده فكان أميرا للمؤمنين ساهرا على حماية الملة و الدين حريصا على رأب الصدع وجمع الكلمة وتوحيد الصف سواء تعلق الأمر بأمته أو بالأمة الإسلامية جمعاء.
كما خلف رحمه الله بصمات عبقريته على مسار المغرب المعاصر بما حققه له من منجزات ومسيرات سارت بذكرها الركبان ولهج بالثناء عليها كل لسان. فقد أبدع وجدد في كل مجال وقاد المسيرات في ميادين الإصلاح البنيوي والمؤسساتي وفي مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية بما أقامه من مؤسسات ديمقراطية وأشاعه من ممارسة للحريات العامة ومن حقوق الإنسان عاملا على تحفيز الحياة الثقافية في المغرب وتشجيعها على الإبداع فكرا وعمرانا وتشييدا وبناء متوخيا فيما باشره من هذه المنجزات تجسيد الهوية المغربية و تنمية الطاقات البشرية والحفاظ على التراث المغربي في تناسق تام بين مقومات الأصالة ومتطلبات المعاصرة.
وقد ترك – طيب الله ثراه – لأبناء هذا الوطن الغالي إرثا زاخرا بالقيم والمثل العليا في الثبات على المبادئ واسترخاص الغالي والنفيس في الدفاع عن الوطن وكرامة المواطنين ووحدة التراب. كما كان صادق الحدس ملهم الفكر في الاخد بالخيارات الناجعة والمناهج الفعالة في تنمية المجتمع المغربي وتفعيل طاقاته بتشجيع المبادرات الحرة في مناخ من الحرية والديمقراطية والتعددية والوعي بالمسؤولية. لقد ترك لنا هذا الإرث القيم لنستنير به ونسير على هديه واثقين من مقومات حضارتنا ومن أمجاد تاريخنا وشموخ وطننا الذي ظل صامدا في وجه الأحداث والتقلبات متفاعلا مع الثقافات والحضارات مستقرا في أمنه آمنا في سربه متطلعا في كل مرحلة إلى ما هو أفضل وأسنى وذلك بفضل تلاحم العرش بالشعب في ولاء متبادل وبيعة قائمة على كلمة التقوى.
وفي ظل هذا الجو الخاشع الذي نستحضر فيه ذكرى فقيدنا العظيم وروحه تظللنا نستشعر بكل خشوع وإجلال وتنويه وثناء ما تعهدنا به – رحمه الله –من حدب وعطف وتولانا به في تكويننا وتربيتنا وإعدادنا للقيام بالأمانة العظمى لقيادة شعبنا من عناية فائقة وإنعام سابغ ومحبة مثالية ما لا يمكن التعبير عنه في هذه اللحظة المؤثرة الخاشعة. فقد كان بالنسبة لنا فضلا عن الأب الحنون والوالد العطوف والمربي المثالي مدرسة فذة في الوطنية الصادقة والقيادة المتفانية في خدمة الوطن والمواطنين ضاربا أروع الأمثلة في هذا المجال مما جعلنا نتخذه قدوة ومنارا في كل ما نخوض غماره من شؤون النهضة ببلدنا والعمل على إسعاد مواطنينا. ولم يفتأ رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء ونحن نعمل إلى جانبه وننهض بأعباء ما يكلفنا به يقدم لنا الوصايا والتوجيهات ويشق لنا الطريق في مدلهم القضايا والمشكلات و من هذه الوصايا و التوجيهات استلهمنا بعده العون على القيام بما ألقاه الله على كاهلنا من أمانة عظمى ومسؤولية عليا. فصممنا العزم على متابعة المسيرة البناءة التي يخوضها المغرب اليوم في توافق وحماس والتحام بين العرش والشعب مسيرة التنمية الشاملة وترسيخ دولة الحق والقانون وبناء المجتمع المتضامن.
فلنظل أوفياء جميعا لهذا الإرث الحسني الخالد ولنحافظ عليه حتى نشيعه بدورنا بين الأجيال الصاعدة كما أشاعه لأنه إرث مستمد من شخصيتنا المغربية ومن مقومات تاريخنا و أصالتنا الوطنية. و بقيمه المثلى سنتمكن من الحفاظ على هويتنا وعلى تماسكنا ووحدتنا في عالم يمور بالتقلبات و تتراجع فيه القيم أمام شتى التحديات.
أيها السيدات و السادة
لاشك في أن تخليد ذكريات قادة الأمة وأعلامها سلوك حضاري وثقافي عظيم الإرث يربط الماضي بالحاضر و يؤسس للمستقبل في ضوء تجربة الحاضر وعبرة الماضي. وهو الأمر الذي لا يجعل الأجيال المتتالية تعتز بأمجادها وببطولات قادتها فقط وإنما تستوحي من مناقبهم المثل و المبادئ و تتخذ منهم القدوة الصالحة و تحفزهم على الإضافة و الجمع بين الطارف و التليد و الأصيل و الجديد.وهذا من شأنه أن ينمي لدى أجيالنا الشعور بالوطنية و الاعتزاز بالانتماء الوطني و يحثها على مواصلة البناء. إذ بدون هذه القيم الوطنية لاينهض بناء و لايستقيم تضامن و لا تتواصل تنمية.
لقد وفقتم"رعاكم الله" إلى اختيار هذا الموعد للاحتفاء بذكرى الراحل العظيم الذي كان رمزا للجهاد الوطني و لترسيخ القيم الوطنية مولانا الحسن الثاني أحسن الله مثواه و طيب ثراه مساهمين بذلك في تخليد شعبنا لهذه الذكرى من أجل التواصل مع روحه الطاهرة عبر استحضار مناقبه و خصاله و آثاره و منجزاته.
وهذا ما نود أن ننوه به مباركين مسعاكم داعين لكم بالتوفيق و السداد.
"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" صدق الله العظيم''.
و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته.
و حرر بالقصر الملكي العامر بطنجة في يوم الأربعاء ثاني ربيع الثاني 1421 موافق خامس يوليوز 2000.