نص الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس الى المشاركين في الاجتماع السنوي المشترك للهيئات المالية العربية

فاس يوم 11/04/2000

"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
أصحاب المعالي والسعادة
حضرات السيدات والسادة
إنه لمن دواعي سرورنا أن نخاطبكم في مستهل هذا الاجتماع المبارك الذي يضم مجالس المحافظين للهيئات المالية العربية تقديرا من جلالتنا للدور الأساسي الذي تقوم به في مجال التعاون المالي بين البلدان العربية مشيدين بما تنهض به من مهام للدفع بعجلة التنمية إلى الأمام في وطننا العربي الكبير.
كما يسعدنا أن نرحب بكم في المغرب بلدكم الثاني الذي يعتز باحتضان هذا الملتقى الهام في مدينة فاس إحدى مدنه العريقة الحافلة بالتراث الحضاري العربي الأصيل والتي كانت وما تزال قبلة العديد من اللقاءات العربية والإسلامية الهادفة.
ومن نافلة القول أن المغرب لم يدخر جهدا في تشجيع العمل العربي المشترك ودعمه إيمانا منه بوحدة المصير وبضرورة التآزر والتضامن بين الأقطار العربية لمواجهة تحديات العصر ومواكبة التطور. وهو التوجه الذي حرص والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني - قدس الله روحه - على بلورته وذلكم بإيلاء القضايا العربية مكان الصدارة في اهتماماته ولا سيما ما يصب منها في اتجاه التكامل الاقتصادي إذ كان رحمه الله من القادة الأوائل الذين دعوا في وقت مبكر إلى إنشاء الهيئات والموءسسات الكفيلة بالنهوض بالمهام التنموية.
وسنظل من جانبنا أوفياء لهذا الإرث النبيل اقتناعا منا بأنه لا مندوحة لمجموعتنا العربية عن التعاون والتكامل في مابينها إن هي أرادت ترسيخ قدمها في عالم تكتسح فيه العولمة كل المجالات الاقتصادية مالية كانت أو انتاجية أو تجارية. فالعالم الذي نعيش فيه قد دخل منذ بضعة عقود عصر التكتلات الجهوية التي لم يعد معها حظ لمن انزووا داخل حدودهم الوطنية الضيقة جاعلين منها رموزا لدغدغة الكبرياء الوطني دون قدرة على حماية السوق الداخلية من تدفق السلع والخدمات الخارجية.
أصحاب المعالي
حضرات السيدات والسادة
إن ما يخامرنا من طموح إلى توسيع التعاون الاقتصادي العربي وتعميقه وفتح أسواق أمتنا أمام منتوجات أقطارها القومية وطاقاتها البشرية ليجعلنا نقدر حق قدره الدور البناء الذي ما فتئت الموءسسات التمويلية العربية تقوم به في هذا الاتجاه منوهين بإسهاماتها في تمويل العديد من المشاريع والبرامج والدراسات. فلقد كان حضورها قويا وفعالا في مختلف مجالات البناء وتشييد السدود وشق الطرق وتطوير الفلاحة وتوسيع شبكات الماء والكهرباء والإسهام في المشاريع الاستثمارية الخاصة بالأمن الغذائي دون أن تغفل الأبعاد الإقتصادية الأخرى حيث عملت بجد وفعالية في مجال تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي والمالي ودعم برامج التصحيح الهيكلي وزيادة حجم التجارة الخارجية البينية وتوفيرالتسهيلات الائتمانية وضمان الاستثمار ودعم التنمية في الدول الافريقية والعمل على تعزيز نشاط القطاع الخاص اعتبارا لمكانته في النسيج الاقتصادي ناهيكم عما بذلته هذه الموءسسات من جهود لمواكبة التطورات الحديثة التي يعرفها الاقتصاد العالمي مما جعلها تعتبر بحق محورا أساسيا في تحريك العمل العربي المشترك.
لذلكم نتوجه الى موءسساتنا التمويلية العربية بالشكر والعرفان لما قدمته من اسهامات لاقطار أمتنا في شكل مشاريع وبرامج ودراسات ما كانت لترى النور لولا الدعم المالي والفني الذي لقيته. بيد أننا ندعو تلكم الموءسسات ونحن على عتبة الألفية الثالثة إلى أن تقف وقفة تأمل بهذه المناسبة لاستشراف الافاق وبلورة روءية مستقبلية للتعاون الاقتصادي العربي كفيلة بجعله يواجه تحديات العولمة ومستلزمات التنمية ومواكبة التطورات المتسارعة في عالم اليوم.
ويتعلق الامر بضرورة التصدي لمعالجة قضايا التنمية في وطننا العربي من منظور أشمل وبروءية تكاملية تعتمد تحديدا استراتيجية للعمل تستهدف تأهيل اقتصاديات بلداننا العربية لتحقيق مستويات من التطور والنمو جديرة بضمان العيش الكريم لابناء المجتمع العربي خليقة بأن تجعلنا مجموعة متكاملة قادرة على الاندماج الايجابي في مايسمى بالاقتصاد الجديد الذي أفرزته العولمة بكل أبعادها التجارية والمالية والتكنولوجية وكذا الاستفادة من التطورات الحديثة التي يعرفها العالم مع الحفاظ على أصالة أمتنا وثوابتها.
إننا نعلم أن مثل هذه المهمة ليست باليسيرة فعلى الرغم من الجهود التي بذلت والنتائج التي تحققت في مجالات الاصلاح الاقتصادي والتقويم الهيكلي وتطوير النسيج الانتاجي والبيئة الاستثمارية بمختلف الاقطار العربية إلا أنه ما زالت أمامنا أشواط تنموية أخرى يجب أن نقطعها من أجل القضاء على مختلف أشكال الفقر ومكافحة البطالة ورفع معدلات الدخل الفردي فضلا عن محاربة الامية والحد من الفوارق بين الحواضر والبوادي بتلبية الاحتياجات الاجتماعية المتزايدة.
فمن شأن هذه الخطوات أن تشكل معبرا لولوج القرن المقبل وتساعد على تضييق الفجوة التي تفصلنا عن ركب الدول المتقدمة. لذلك علينا أن نعمل على تدارك الاوضاع بالسرعة اللازمة إذ لم يعد هناك مجال لاضاعة مزيد من الوقت.
أصحاب المعالي والسعادة
حضرات السيدات والسادة
إننا مدعوون الى تبني مقاربة شمولية للتنمية تعكس تطلعاتنا الى بناء مجتمع متطور منفتح على العالم ذي اقتصاد قوي قادر على مواجهة المنافسة الدولية التي غدت أبرز سمات هذا العصر.
فالتحديات التي تطرحها علينا التطورات المتسارعة العلمية والتكنولوجية والتقدم الهائل والانتشار السريع للتقنيات الحديثة في مجالات المعلوميات والاتصال والنقل وتزايد وتيرة الانتاج والتصدير بأقل التكاليف واحتداد المنافسة لغزو الاسواق الخارجية واستقطاب روءوس الاموال ضمن ظرفية دولية تتميز بتجاوز الحدود والحواجز الحمائية كلها عوامل تحتم علينا أن نتفاعل معها بكل ايجابية لنتمكن من الاستفادة مما تتيحه من إمكانات وما تفتحه من افاق متجنبين في نفس الوقت انعكاساتها وتأثيراتها السلبية. وفي هذا المقام لا بد من الاشارة الى أن إعداد وتكوين الطاقات البشرية سيظل أنجع السبل لتحقيق هذه الاهداف في عصر مجتمع المعرفة والاتصال.
انه لامناص لنا اذا ما أردنا الاندماج في مسيرة التطور العالمي المعاصر من اعتماد استراتيجية للتنمية تستهدف الحفاظ على مقومات الاستقرار الاقتصادي والمالي والعمل على تقوية النسيج الانتاجي العربي وانعاش القطاع الخاص وتنمية التبادل التجاري البيني الذي لايزال متدنيا ولا يستجيب لطموحات شعوبنا وكذا تنويع المنتوجات والصادرات وتوفير المناخ الملائم لتشجيع الاستثمار العربي واستقطاب الاستثمار الأجنبي الأمر الذي من شأنه أن يساعد على احداث مناصب الشغل وعلى نقل التكنولوجيا الحديثة.
وغير خاف عليكم حضرات السيدات والسادة أن انطلاقنا لتحقيق اندماج اقتصادي متكامل لن يبدأ من فراغ. فلنا في وحدة التاريخ واللغة والدين وفي ما حبانا الله به من امكانات مادية وطبيعية وبشرية هائلة وما حققته كثير من دولنا على درب التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي ما يوءهل بلداننا لتحقيق درجة متقدمة من الاندماج مع ضرورة تحقيق التنمية الخاصة بكل قطر على حدة اذ لابد أن يحصل نوع من التماثل في درجات النمو بين بلدان المجموعة العربية ليتم الانسجام والتكامل بينها ضمن مراعاة المميزات الخاصة بكل منها والعمل على تنمية اقتصادها وفقا لما يلائم خصوصياتها.
وبما أن هذا الملتقى يضم المسوءولين وأصحاب القرار الاقتصادي من وزراء المالية والاقتصاد في الدول العربية فاننا ندعو الجميع للتفكير في الكيفية التي يمكن بها لدولنا ترتيب السوق المالية العربية في اتجاه تحقيق وحدة نقدية كعامل من عوامل تيسير اندماج اقتصادي متين اقتداء بما كانت عليه أمتنا في عهودها الزاهرة من وحدة نقدية جعلت من الدينار والدرهم العربيين عملة مرجعية ومفتاحا للأسواق الخارجية وأخذا بما يفرضه التنافس في عصر التكتلات الذي أضحت العملات فيه ءالية أساسية للتوسع الاقتصادي.
ولنا اليقين في أنكم أصحاب المعالي والسعادة ستغنون هذا الملتقى بخبرتكم الواسعة وتعطون هذا التوجه العربي نفسا جديدا جديرا بتطلعات أمتنا الى غد أرغد وأفضل.
وفقكم الله وسدد خطاكم وأنجح مساعينا جميعا في الارتقاء بأمتنا العربية الى ما تطمح اليه من ازدهار ورخاء.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وحرر بالقصر الملكي بالرباط في خامس محرم الحرام 1421 موافق العاشر من أبريل 2000 ''.