نص الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس الى المشاركين في الندوة الاسلامية الدولية حول موضوع "المرأة المسلمة والعلوم"

فاس يوم 22/03/2000

الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وءاله وصحبه
حضرات السيدات والسادة
يسعدنا أن نعرب لكم - مع أطيب تحياتنا - عن الابتهاج الكبير الذي يغمرنا ونحن نخاطبكم في مفتتح هذه الندوة الاسلامية الدولية التي تنعقد في العاصمة العلمية لمملكتنا والتي تعالج موضوعا جوهريا وملحا وذا أهمية قصوى إذ يتناول " المرأة المسلمة والعلوم". وذلكم في إطار التعاون القائم بين المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة " إيسيسكو" والاتحاد الدولي للمرأة في العلوم وبعض المؤسسات الجامعية في بلادنا.
وإنه لشعور نابع من التقدير العميق الذي نوليه للمعاني النبيلة التي يمثلها هذا اللقاء العلمي الذي يجمع صفوة من المتخصصين في مختلف فروع العلوم البحتة والتطبيقية عالمات وعلماء وفدوا على المغرب من أقطار شقيقة وصديقة تحذوهم رغبة أكيدة في أن يغنوا موضوعه بالنير من أفكارهم والحصيف من ارائهم وأن يبحثوا بروح الفريق المتازر وفي جو الزمالة الصافي مختلف القضايا ذات الصلة بدور المرأة العلمي في تنمية المجتمعات الاسلامية مستشرفين افاق المستقبل الممتدة أمام المرأة المسلمة في هذا المجال الذي يتوقف تطور الامم وتقدمها على مدى التفوق في جميع أصنافه وعلى مستوى الابداع في سائر معارفه.
إن اختيار المغرب مقرا لانعقاد هذه الندوة يبعث في نفوسنا الرضى والارتياح إذ يواكب مطامحنا والغايات التي نسعى إليها لتتبوأ المرأة الموقع اللائق الذي هي جديرة به. وهو يقوي فينا الثقة والاطمئنان بأن تطور المرأة في المجتمعات الاسلامية قد أخذ اتجاهه السوي السديد واستقام على النهج القويم الرشيد لان التقدم الحق أي الذي يبني الانسان وينشىء التمدن ويحقق العمران ينطلق أساسا من قاعدة العلم في مختلف شعبه ومجموع قيمه ليتابع المسير في الخط اللاحب الذي لاعوج فيه والذي من شأنه أن يفضي الى المستقبل المشرق الباسم وما يرجى فيه من ارتقاء متألق دائم.
حضرات السيدات والسادة
إن للمرأة في تاريخ ثقافتنا وحضارتنا منزلة رفيعة تستمدها من مبادئ ديننا الحنيف الذي ساواها مع الرجل في الحقوق والواجبات واعتبرها شقيقة له في الاحكام وفتح لها أبواب العلم والمعرفة دونما قيد أو شرط وفي غير حيف أو ضغط مما أحلها في عصور الازدهار أسمى الدرجات وأنزلها أعلى المقامات ومكنها من المشاركة بفعالية في النهضة العلمية الاسلامية والمساهمة بإيجاب في إقامة صرحها الشامخ الذي عد بحق مثالا متفردا بين الثقافات والحضارات الانسانية والذي كان للعالمات المسلمات في تشييده أثر ظاهر وواضح منذ العهد النبوي الكريم على نحو ماقامت به كثير من الصحابيات الجليلات وأمهات المومنين رضوان الله عليهن في تبليغ الدعوة وتلقين مسائل الفقه ورواية الحديث الشريف.
ولابدع فإن مما يجدر تأكيده في هذا المقام استيحاء من موضوع الندوة والتقاء مع أهدافها أن الاسلام - كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد جعل "طلب العلم فريضة على كل مسلم" ذكرا كان أو أنثى وأنه لم يقيد العلم أويحصره في مجال دون اخر ولم يحجر على المرأة في طلبه وتحصيله أو تعميقه وتكميله اعتبارا للعلاقة الوطيدة بين المعرفة والعقيدة ولما هو مطلوب فيهما من المسلم والمسلمة على السواء مما يجليه التفضيل الذي خص الله به ذوي العلم في قوله الكريم.. "هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون".
بيد أن الواقع يكشف - بأسف شديد - أن المرأة في معظم المجتمعات الاسلامية لم تنل حقها الذي يوجبه لها الشرع ولم تسنح لها الظروف المواتية لاداء وظيفتها الاجتماعية ورسالتها العلمية بالقدر الذي به يكون تماسك المجتمع وتتوافر مقومات نهضته.
وهو وضع سلبي غير معزو الى نقص أو ضعف في التشريع ولكنه ناتج عن تقصير وخلل في تطبيق المبادئ السامية التي جاء بها الاسلام لتمكين المرأة من القيام بواجباتها في إطار منظمومة متلاحمة العناصر مترابطة الحلقات من الاحكام الشرعية والقيم العليا والمثل الرفيعة والمعايير الضابطة لسير الحياة.
حضرات السيدات والسادة
ان الاهتمام بابراز الدور العلمي للمرأة المسلمة من خلال بحث حقوقها العلمية من منظور الدين والثقافة والمجتمع وبروءية مستقبلية لهو من أقوم السبل الموءدية الى النهوض بهذا المجتمع ليحقق مايتطلع اليه من نمو عام شامل يكون فيه للمرأة اسهام تام كامل.
ذلكم ان العناية البالغة بتطوير العلوم والحرص الشديد على تحديث المعرفة هما الاساس المكين للتفوق في مضمار الابداع الثقافي والحضاري والتميز في حلبة سباقه اضافة الى انهما الوسيلة الناجعة للتغلب على المشكلات التي تعترض طريق الامم والشعوب نحو التنمية المتكاملة المتوازنة ولازاحة المعوقات التي تحول دون الاقلاع في هذا المضمار بخطى متئدة ومسيرة مأمونة.
لذا فانه غدا لازما ان تشرع أبواب العلم أمام المرأة وأن توفر لها أسباب الاخذ به والابداع فيه لاسيما في حقوله البحتة والتطبيقية لان العلم قوام الوجود في هذا العصر ولان المستقبل مرهون بامتلاك ناصيته وحسن توظيفه. وليس أمام العالم الاسلامي من وسيلة لتجاوز كثير من الصعاب التي تواجهه في سرح التشييد والبناء وميادين التطور والنماء سوى اشراك المرأة في تنمية المجتمع علميا وعمليا باتاحة أكبر الفرص أمامها ليس فقط لنيل قسط من التعليم مهما يكن هذا القسط كبيرا ووافرا مع الحاجة الى تعميمه حتى يكون للفتاة القروية حظ مناسب منه ولكن كذلك لاظهار تفوقها العلمي وكذا لتطوير مهاراتها وترقية ملكاتها ثم لممارسة دورها في صنع التقدم وفي صياغة المستقبل على أفضل الوجوه.
ولقد احسن القائمون على هذه الندوة صنعا حين جعلوا من ضمن المحاور التي ستبحثها محورا حول التمييز الذي تعانيه المراة في ميدان العلوم والتوظيف ومحورا ثانيا حول تحسين اوضاع المراة المسلمة لتجاوز هذه المعاناة.واننا لنرى أن هذا الضرب من التمييز هو من أثار عصور التراجع الثقافي والتقهقر الحضاري وأنه مما يتعارض مع المرجعية الاسلامية وان كان قد تمكن واستقر في بعض الاذهان.
ولقد ءان لنا اليوم ونحن ننشد التحديث والتجديد على دعائم ثابتة وأسس قوية ونعمل صادقين من اجل التقدم بمجتمعاتنا أن نصلح هذا الوضع بالاتزان اللازم والحكمة البالغة وان نقوم مسلكه بالعقل الراجح والحجة الدامغة. وهو مالا يتسنى الا بتناول قضايا المراة في سياق توجه صحيح قويم ومعالجتها بروءية واضحة ومنهج سليم مسترشدين بتعاليمنا الدينية السامية الحاثة على طلب العلم النافع بلا قيود والداعية الى العمل على تطوير الحياة وتحسين الوجود في نطاق التكريم الذي انعم الله به على الانسان وفي حدود الامانة التي أناطها به محملا اياه مسوءلية رعايتها لافرق في هذا بين الرجال والنساء كل في دائرة امكاناته والتزاماته اذ "كلكم راع وكلكم مسوءول عن رعيته" وفق ما علمنا الرسول الاكرم صلوات الله وسلامه عليه.
حضرات السيدات والسادة..
ان من الموءشرات الدالة على انتظام مسيرة العلم في العالم الاسلامي وضع "استراتيجية تطوير العلوم والتكنولوجيا في البلدان الاسلامية" وهي التي تم اعتمادها من قبل موءتمر القمة الاسلامي في دورته الثامنة المنعقدة بالعاصمة الايرانية "طهران" في شهر ديسمبر من عام 1997. وان هذه الاستراتيجية التي خطتها المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة "أيسيسكو" بتنسيق مع اللجنة الدائمة للتعاون العلمي والتكنولوجي المنبثقة عن موءتمر القمة الاسلامي لتشكل اطارا نظريا ملتئم الجوانب للنهوض بالبحث العلمي وللاخذ بأسباب التقدم التكنولوجي على صعيد العالم الاسلامي مما يعد مكسبا ثمينا لهذا العالم يقتضي حسن استثماره ليحقق أهدافه ويقود الى الازدهار المنشود.
ولنا اليقين أنه في ءافاق هذه الاستراتيجية المحكمة وأبعادها الجامعة ستجد المرأة المسلمة ان شاء الله أرحب مجال وأوسع امكان للاسهام في تنمية المجتمع عن طريق أداء رسالتها العلمية على نحو صحيح وفاعل كشقيقها الرجل.
وانه لمن حسن الطالع أن يكون الجهاز المبادر الى هذه الاستراتيجية وهو المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة قد انطلق برعاية والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني نور الله ضريحه من حاضرة فاس هذه المدينة العريقة التي كانت على امتداد عهود الازدهار - ككثير من حواضر المغرب وبواديه - معقلا للعلم وموئلا للمعرفة وموطنا لافذاذ الفقهاء ونوابغ الحكماء وكان من بينهم نساء فضليات ذوات سبق وريادة وتبريز في تخصصات شتى مما تنطق به صحائف التاريخ الفكري للمغرب ويشهد له السجل الانساني للثقافة والحضارة.
وسعيا الى احياء هذه المفاخر والامجاد وتحفزا الى بناء مغرب قوي متقدم قادر على حل مشكلات العصر ورفع تحديات المستقبل فاننا مافتئنا نحرص على تعليم الفتاة المغربية ونشجع ولوجها مختلف ميادين العلم والحياة سالكين نهج والدنا المكرم طيب الله ثراه ومقتدين بجدنا المقدس جلالة الملك المغفور له مولانا محمد الخامس الذي كان له - في غمار معركة التحرير - فضل تأسيس هذا التعليم واحتضانه.
حضرات السيدات والسادة..
اننا لنود في ختام رسالتنا الى هذا اللقاء العلمي الحافل ان نجدد الترحيب بالشخصيات المرموقة المشاركة فيه وان ننوه بمبادرة الايسيسكو الى تنظيمه متعاونة مع جهات اختصاص موقرة وان نغتنم مناسبة انعقاده لنهيب بالاسرة الاسلامية الكبرى ان تولي موضوع مشاركة المرأة في النشاط العلمي والمعرفي والحياة العملية عامة فائق الانشغال والعناية ووافر الاهتمام والرعاية سائلين الله تعالى ان يعيننا جميعا على ادراك مقاصدنا وتحقيق خير امتنا وان يجنبنا الزلات والعوائق والعثرات وان يلهمنا الحكمة والرشاد انه ولي التوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته''.

وحرر بالقصر الملكي بالرباط في يوم الاحد 12 ذي الحجة عام 1420 ه الموافق 19 مارس سنة 2000 م.