نص الرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس إلى المشاركين في الدورة 23 للجنة التراث العالمي

مراكش يوم 29/11/1999

"حضرات السيدات والسادة
يسعد المملكة المغربية أن تستقبلكم في إحدى عواصمها التاريخية الكبيرة مدينة مراكش التي تجمع على أرضها المضيافة تراثا زاخرا وتاريخا حافلا يحكيان في كل درب من دروبها المكانة المرموقة التي استطاعت هذه الحاضرة أن تتبوؤها بين كبريات المدن العالمية وأعراقها.
وإنها لمناسبة سعيدة هذه التي تتاح لنا ونحن في بداية عهدنا لنشارككم طموحاتكم وانشغالاتكم حيال الموروث الحضاري الذي راكمته الإنسانية جمعاء كتعبير عن عبقريتها وعن مثلها وعن جدارتها بالتكريم الإلهي الذي جعل الإنسان من أفضل المخلوقات وأنبلها.
لقد مر اليوم ما يناهز السبعة والعشرين سنة على اتفاقية التراث العالمي التي صادقت عليها الجمعية العامة لليونسكو سنة 1972 وتحقق بفضلها تقدم كبير في مجالات التعامل مع التراث الثقافي والطبيعي حيث باتت الدول الموقعة على مسودتها تتناول قضاياه انطلاقا من مفهوم واحد قوامه أن المحافظة على التراث المحلي والوطني وصيانته إنما هما محافظة على ارث إنساني يلتقي عنده باعتراف متبادل جميع أبناء البشرية.
وهذا الشعور الدولي والاهتمام المتزايد والحرص على تسجيل المواقع الطبيعية والأثرية الهامة والمدن والمباني التاريخية الفريدة ضمن لائحة التراث العالمي هو الضمان لمستقبل زاهر لفائدة الحضارة الإنسانية على اختلاف أوجهها وتعدد تجلياتها وستكون للأجيال القادمة فرص عديدة للاستقاء من قدراتها ما تستطيع أن تتفاعل به مع ما أثمرته الأجيال السالفة في جميع مناحي الحياة معتمدة في ذلك على ما وصلت إليه الاكتشافات التقنية والعلمية الحديثة.
إن هذا الاجتماع الذي يعد أخر تظاهرة من نوعها في هذا القرن سيستحضر لا محالة الشروط الجديدة التي تميز الاتصال الإنساني ومعرفة الناس ببعضهم في ظل الثورة الإعلامية التي يشهدها العالم والتي تجعل تراث كوكبنا ملكا مشتركا نتمكن من التعرف عليه والاقتراب منه والاطلاع على ما يعرفه من تطور وما يتهدده من مخاطر. وفي ظل هذه المعرفة الجديدة بالآخر فان التراث يتخذ بعدا عميقا بما يمنحه من فرص لفهم الخلفيات الثقافية والتاريخية للإنسانية جمعاء والانطلاق منها للدفاع عن قيم التعايش والتسامح. كما أن هذه المعرفة تحملنا مسؤوليات جديدة وجسيمة ذلك أننا اليوم مسؤولون جميعا عن حماية هذا التراث بكل أشكاله والحفاظ عليه للأجيال المقبلة. ولايمكن أن ندعي أننا لم نكن على علم بما يختزنه العالم من تعدد حضاري وما يتهدد هذا التعدد من مخاطر بفعل الحروب والفقر اللامية.
وانطلاقا من الشعور بجسامة هذه المسؤولية فقد بات من الضروري تنسيق الجهود على المستوى الدولي لإنقاذ تراثنا الحضاري حيثما كان ذلك أن ما يفقده شعب من الشعوب إنما تفقده الإنسانية جمعاء ومن المؤكد أن عجز عدد كبير من دول الجنوب على حماية تراثها الوطني سيفقد الإنسانية كنوزا عظيمة من تاريخها وجانبا أساسيا من جوانب تعددها.
وفي هذا السياق لابد من توجيه تحية تقدير للجهود التي تبذلها منظمة اليونسكو سواء على مستوى تحسيس الرأي العام الدولي بدقة هذا الوضع أو على مستوى ما تقدمه من خدمات جلى لصالح المشاريع الأساسية في مجال حماية التراث.
على أننا لابد أن نؤكد مرة أخرى على ضرورة اعتماد رؤية ديناميكية بخصوص هذه الحماية قوامها إدماج تراثنا في مشاريع التنمية وليس فقط تحنيطه في إطار رؤية تقديسية للماضي وهو ما يستدعي أيضا ربط جسور قوية بين هذا الموروث الحضاري وبين إبداع الإنسان في الزمن الحاضر لان تراث الغد هو أيضا ما نبتكره اليوم فلا مناص إذن من جعل التراث فضاء مشتركا لحوار الحضارات وحوار الأجيال والأزمنة.
حضرات السيدات والسادة..
غير خاف عليكم وأنتم من صفوة المختصين وكبار الخبراء والدارسين ومن المسؤولين التقنيين الساهرين على تدبير شؤون التراث في أوطانكم أن عراقة الأمم وتجذرها يعودان لما كان للأسلاف من حضور في مسرح التاريخ وما خلفوه من أثار عمرانية وإبداعات فكرية واختراعات علمية وإنجازات حضارية وإذ لا نشك أبدا في أن جميع أبناء البشر أينما وجدوا قد ساهموا بقسط أو بأخر في إرساء صرح هذه الحضارة الإنسانية وفي تدعيم أسسها فإننا لانشك كذلك في أن نضج الشعوب لا يقاس إلا بمستوى شعورها وحسها بأهمية تراثها وبالعناية التي ألت على نفسها أن تخصصها له حفظا وصيانة وتجديدا.
ووعيا من المغرب بهذا الأمر فقد سعى منذ استقلاله إلى سن سياسة نشيطة في مجال الحفاظ على المآثر لم يحذ فيها قط حذو بعض الدول ممن سبقوه في هذا المجال بجلب الفنيين والتقنيين من الخارج دون كبير عناء وانما أثر على نفسه كلما توفرت المهارات أن يتولى أمور صيانة تراثه أولا بنوه من ذوى الخبرة والمعرفة وأن يتم في أو راشه تلقين الصنعة وصقل المواهب وتأهيل السواعد. هكذا كانت البادرة الاولى لوالدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني قدس الله روحه عندما قرر رحمه الله ترميم القصر الملكي بفاس الذي كانت أثار الاهمال والبلى قد أصابته إبان عهد الحماية فجمع ما توفر أنذاك من الصناع والحرفيين وجعل بجانبهم وتحت امرتهم الفي شاب للتعلم والتدرب على فنون البناء التقليدي والزخرفة الاصيلة وبذلك لم ينقذ المغرب معلمة من معالمه التاريخية فحسب وانما أهل كذلك وفي نفس الان مجموعة كبيرة من الصناع الشباب هي تلك التى كان لها أن تساهم في انجاز المعلمتين الخالدتين ضريح جدنا المغفور له جلالة الملك محمد الخامس ومسجد الحسن الثاني اللذين جمعا في عمارتهما ما تفرق في غيرهما من اساليب البناء والزخرفة الاصيلين.
ومع هذا لم يغض المغرب الطرف عما لم يكن يمتلكه من تقنيات حديثة ومناهج علمية لا غنى عنها اليوم في معالجة قضايا التراث دراسة وترميما كما لم يغفل التعاون والتعامل مع البلدان الشقيقة والصديقة أخذا وعطاء. هكذا عمدت بلادنا إلى تأهيل أطرها وتكوينها في دروب متعددة من المعرفة المرتبطة بالميدان كالاركيولوجيا والانتروبولوجيا والاثنولوجيا وعلوم الاحاثة وتاريخ الفن والفيزياء والكيمياء المطبقين في التراث وغيره ليتوفر لديها اليوم والحمد لله من هذه الاطر ما يساعد على مواجهة المتطلبات في الاستكشاف والبحث كما في المعالجة والصيانة والترميم.
وكلما دعته الضرورة لذلك لم يتأخر المغرب في الاستعانة بالخبرات التقنية العالية المتوفرة لدى غيره كما أنه لم يتردد في الاستجابة لطلبات المساهمة والتعاون الواردة عليه من الدول الشقيقة والصديقة. فكما أن علماء وتقنيين أجانب عملوا ويعملون إلى جانب علمائنا وتقنيينا فان زمرة من خيرة أطرنا ومجموعة من أمهر فنانينا تساهم في انقاذ مأثر من بلدان شقيقة وصديقة بنفس الحماس والاخلاص اللذين يطبعان أعمالهم داخل الوطن.
حضرات السيدات والسادة..
انه ليسعدنا أن نسجل اهتمامكم المتزايد بقضايا التراث الطبيعي وبقضايا التراث المنقول بعدما كان الاهتمام منصبا خصوصا على الجوانب العمرانية والمعمارية والاثرية فانتم بهذا التوجه تعودون بلجنتكم الموقرة إلى توازن كان لابد منه لان الانسان يعيش في بيئة له معها تفاعلات وفي مجتمعات لاينفصم عنها ما تجمع فيها من عادات ومعنى هذا أن عامل التأثير والتأثير قوي الحضور فيما مر من عصور ولا يجب أن يصل بنا الامر عند مستهل القرن الجديد إلى اغفال هذا الحضور في حياتنا البشرية.
ان التراث الطبيعي اضافة إلى كونه مصدرا من مصادر فهم التاريخ الجيولوجي والبيئى لكرتنا الارضية وإلى كونه مختبرا فريدا لشتى علوم الطبيعة فانه يعتبر كذلك عنصر توازن بين الانسان وبيئته وعاملا من عوامل الحفاظ على تنوع الاصناف والاجناس الحية المشكلة للطبيعة '' بيوديفيرسيت '' والتي ان تقلصت أو أصابها نقصان هام فستخل بذلك التوازن وربما توءدي إلى تقليص فرص استمرار الحياة الانسانية على سطح كوكبنا الارضي.
أما التراث المنقول فانه لايخفى عليكم وزنه القوي وحضوره الكبير في بعض الدول بل وفي قارات بكاملها كما هو الشأن في قارتنا الافريقية حيث شكل التراث الشفاهي مصدر تثقيف وتأهيل ومنبع توجيه وتأطير هكذا كان لمجتمعات عديدة أن تبني صرح حضاراتها معتمدة عما تتناقله الاجيال بقوة الكلمة وبفعل الموعظة وحسن السلوك وبحكمة السير والحكاية والامثال فساهمت بذلك في اغناء الحضارة الانسانية اغناء لايستهان به مما يحتم علينا ايلاء هذا التراث ورموزه الاولوية من اهتاماتنا لانه مهدد بالانقراض أكثر من غيره ولانه بمثابة ثروة لاتعوض.
ولعل المبادرة التي أقدمت عليها اليونسكو بتسجيلها لساحة جامع الفناء بمراكش ضمن قائمة تراث الانسانية - وهي أول مبادرة من نوعها- علاوة على كونها تشرف المغرب فانها تعتبر مبادرة حميدة وجريئة فتحت الباب على مصراعيه تجاه هذا النوع من التراث وسيكون لها ان شاء الله وقع كبير وتأثير واسع اذ ستتبعها لامحالة تسجيلات أخرى تضمن تكثيف جهود المجموعة الدولية من أجل صيانة هذا الصنف الهام من الموروث.
حضرات السيدات والسادة
بقي لنا أن نشير إلى أن سعيكم وراء جعل قائمة التراث العالمي سجلا متوازنا من حيث تمثيلية الدول والجهات فيه ومن حيث تسجيل المواقع الثقافية والطبيعية على حد سواء سعي مشكور وقصد محمود علينا أن نعي بعده وأن نتصور وقعه ولاشك في أن السنين المقبلة ستشهد تطورات هامة في هذا الباب بفضل تمتين الروابط وترسيخ الوعي وصدق النوايا.
حضرات السيدات والسادة
اننا لسعيدون بأن يحضر افتتاح أشغال دورتكم هذه السيد كويتشيرو ماتسوورا المدير العام الجديد لليونسكو الذي كان طيلة العام الذي نودعه رئيسا للجنتكم هذه حيث أبان خلال مدة رئاسته عن اطلاع واسع وكفاءة عالية وادراك كبير لشوءون التراث العالمي مما أهله لادارة اللجنة بكثير من الحزم والذكاء فضلا عن الحنكة الديبلوماسية التي توفرت لديه بحكم تكوينه وطول تجربته في هذا الميدان والتي ساعدت ولاشك في تسهيل مأموريته.
واننا اذ نحييه ونجدد له التهنئة على الثقة التي فاز بها لدى الدول الاعضاء التي صوتت عليه ليتولى شوءون اليونسكو لواثقون في أنه سيكون خير خلف لخير سلف وانه سيخطو بمنظمتنا خطوات جادة إلى الامام معولا في ذلك على تفهمنا جميعا ومساعدتنا له.
واذ نرحب بكم ثانية في ارض المغرب وبين ظهران أهل مراكش الذين نحييهم في هذا المنبر تحية خاصة فاننا نبارك أعمال لجنتكم التي لانشك في أنها ستكون ان شاء الله مثمرة ونافعة والله الموفق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.''

وحرر بالقصر الملكي العامر بالرباط يوم الجمعة 17 شعبان 1420 ه الموافق 26 نونبر 1999م.