نص الرسالة السامية التي وجهها جلالة الملك إلى المؤتمر ال 49 للاتحاد الدولي للمحامين المنعقد بفاس

فاس يوم 31/08/2005

" الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
أصحاب المعالي والسعادة، السيدات والسادة الأساتذة الأجلاء،
حضرات السيدات والسادة،
إنه لمن دواعي اعتزازنا، أن يعقد الاتحاد الدولي للمحامين، مؤتمره التاسع والأربعين، على أرض المملكة المغربية، اختياراً منه لبلدنا، كملتقى للحضارات، وأرض للحوار والتسامح، والتشبع بقيم العدل وحقوق الإنسان، وتجسيدا لثقته في عزمنا الوطيد وعملنا الدؤوب، على المضي قدما، في بناء المجتمع الديمقراطي التنموي الحداثي، المبني على التعددية الفكرية والسياسية، وسيادة القانون، في إطار دولة الحق والمؤسسات، التي نعتبر فصل السلط، واستقلال القضاء، وضمان الدفاع عن الحقوق، وصيانتها بالمحاماة الملتزمة، من مقوماتها الراسخة.
ومما يجعل جمعكم الموقر يحظى برعايتنا السامية موضوعه الهام، الذي وفقتم في اختياره، ولاسيما عندما ينصب النقاش وتبادل الأفكار، على أخلاقيات مهنتكم النبيلة، في مداها الموحد، وما تطرحه من تساؤلات. فالموضوعات والقضايا التي سيعالجها مؤتمركم، وإن كانت مهنية خالصة في بعضها، فإنها ذات طابع شمولي، تستوعب المتغيرات المتسارعة، التي يعرفها عالمنا، والمستجدات التي يفرضها التقدم التكنولوجي، واتساع الفجوة الرقمية، وكذا انعكاسات أثر العولمة، وتحرير المبادلات، على زيادة الهوة بين الدول النامية والدول المتقدمة. فضلا عن جعل قوة القانون، وخيار الأمان والسلام، يفرضان نفسهما على قانون القوة، ومنطق العنف والتنافر، المشحون بمخاطر الإرهاب المقيت. وذلكم ما يطرح عدة تحديات حقيقية، تشكل لديكم انشغالا، بما سيكون عليه تفاعلكم المهني معها، والتكيف مع متغيراتها الحاسمة.
فنحن نعيش عالما يتجه نحو النمطية والانفتاح، ويتجاوز في مسيرته الحثيثة أي نزعة إقليمية، أو انغلاق على الذات، أو إيثار للخصوصية على الكونية. بما يعنيه ذلك من أبعاد ايجابية، تتمثل في المزيد من تقنين حقوق الأفراد وتوسيعها، ووضع الآليات الكفيلة بحمايتها وتنميتها وتحصينها، من كل تداعيات سلبية، تمس حقوق الإنسان في هويته وحرمته، أو في حريته وملكيته، أو تعكس انفلات التكنولوجيا المتطورة من المسؤولية الأخلاقية. وهو ما يستوجب التفكير في إرساء دعائم عدالة فعالة، تواكب هذا التطور، وتصون حقوق الأفراد والجماعات، وخاصة في الدول النامية. ولاشك في أن هذه العدالة تمثل بالنسبة لكم فضاءا جديداً، للقيام برسالتكم النبيلة. وبقدر ما أصبح لمهنة المحاماة من طابع عالمي، فإنها تواجه ضرورة توحيد القيم السلوكية المثلى، واعتماد التكوين المستمر، والاستجابة لمتطلبات مواكبة العالم الرقمي، والتوفيق بين وجوب احترام الحريات، وصيانة النظام العام، في ظل سيادة القانون وسلطة القضاء. دون أن ننسى أنها قبل كل شيء، مهنة إنسانية مثالية تقتضي إلى جانب الفقه القانوني، النزاهة في العمل، من أجل مساعدة القضاء، الذي يُعتَبَر المحامون جزءا من أسرته الكبيرة الموقرة، وشريكا أساسيا له في تحمل مسؤولية إحقاق الحقوق ورفع المظالم، على أسس العدل والإنصاف وسيادة القانون، ونشر الثقة والاستقرار، اللازمين لتأمين الحياة الاجتماعية، وتحفيز الاستثمار، والنهوض بالتنمية الاقتصادية.
ولنا اليقين في أنكم ستكرسون جهودكم ونقاشكم، في سبيل ترسيخ تلكم المبادئ والقيم السلوكية، التي ينبغي للمحامي احترامها، والالتزام بضوابطها. فالمحامي يمارس المهام المنوطة به، في نطاق تقاليد وأعراف مكتسبة على مدى أجيال، متقيدا في سلوكه المهني بمبادئ الاستقلال والتجرد والنزاهة، والكرامة والشرف، وما تقتضيه الأخلاق الحميدة. كما أن أسرة المحاماة لا يمكن أن تنهض بمهمتها، ولا أن ترفع التحديات التي تواجهها، ديمقراطية تنموية وطنية كانت، أو سلمية شرعية دولية، لإقامة نظام عالمي أكثر إنصافا وإنسانية وتضامنا، إلا بالتشبث بالقيم الأخلاقية الراسخة، وما ظل يتراكم من ممارسات اجتهادية مشرقة، تعتبر إضاءات لا يخبو نورها على مدى الزمن. وكذا من تبادل خبراتكم المتنوعة أيضا، وتحقيق الاندماج في الرسالة العالمية لمهنة المحاماة، بما تتطلبه من قدرة على التكيف مع التطور القضائي، ورفع التحدي القانوني للعولمة الشرسة، وجعل المحاماة الشريفة شريكة للعدالة النزيهة، في تحقيق الحكامة الجيدة.
وفي عالم يعرف اهتزازاً للمرجعيات القانونية والسلوكية والروحية الفاضلة، وتصاعداً للأصوليات الهوجاء، ومداً للنزوعات المادية والتشيئية، فإننا نشيد بتركيز أعمالكم على إصدار الإعلان العالمي لأخلاقيات المهنة. ونود التنويه في هذا الصدد، بما جسدته أسرة المحاماة، ليس فقط في المجال القضائي، بل أيضاً في كل ميادين النضال من أجل كرامة الإنسان وإحقاق الحق، من التزام بالخلق الرفيع، داعين إياكم لتكريسه في مدونة للسلوك. وإننا لجد معتزين بكون هذا الإعلان سيرتبط إقراره ببلدكم الثاني المغرب، وبخاصة بمدينة فاس العريقة، التي أنشئت فيها جامعة القرويين، التي تعد إحدى أقدم الجامعات في العالم، فظلت مناراً للإشعاع الثقافي والحضاري، الذي يستمد نسغه من أصالة المغرب وعقيدته الإسلامية السمحة، ومن انفتاحه على القيم الكونية. فضلا عن ثقافته التي انصهرت في بوتقتها الموحدة روافد ثقافية متعددة : أمازيغية، وعربية إسلامية، وإفريقية ومتوسطية، وعالمية معاصرة، شرقية وغربية، شمالية وجنوبية، متفاعلة ومبدعة، لنسيج حضاري متميز بغنى مكوناته، وانصهارها ضمن هوية فريدة، في مزجها الخلاق بين الأصالة والمعاصرة.
وإن من دواعي ابتهاجنا بملتقاكم، تزامنه مع تفعيل ما نحرص عليه من توجه حثيث، لإغناء وتحديث الإطار القانوني، المنظم لمهنة المحاماة، لتواكب المستجدات، وترقى إلى مستوى مواجهة التحديات؛ عاملين على أن تحقق التكامل والانسجام، مع التطور الذي تعرفه هذه المهنة عالميا، على أساس التوفيق بين الخصوصية الوطنية والقيم الكونية. وهو الإطار الذي سوف يؤمن استقلالية المحاماة، ويرفع مستوى أدائها. كما أنه سيدعم سبل التواصل والتعاون والتشارك، مضيفا بذلك لبنة جديدة، إلى ما شيدناه، على درب الإصلاحات الكبرى، التي نقودها بعزم وحزم، للنهوض ببلدنا، وجعله في مستوى الدول المتقدمة.
فالمملكة المغربية حريصة على أن تظل رسالة الدفاع حاضرة بمصداقيتها، في قلب الممارسة المؤسسية، التي تنهض بها السلطة القضائية، باعتبارها الضامن الفعلي لمساواة المواطنين أمام القانون وسيادته، واستقرار المجتمع، والثقة في المعاملات، وتحفيز التنمية والاستثمار. ومن ثم جعلنا في مقدمة ركائز مشروعنا الديمقراطي، الارتقاء بالعمل القضائي، وتأهيله باستمرار، مهيبين بوزارة العدل، وجمعية هيئات المحامين بالمغرب، أن تنسج فيما بينها علاقات شراكة وتعاون ثابتة، في إطار المسؤولية والتعبئة، من أجل تحديث المنظومة القانونية، وتأهيل كل الفاعلين في الحقل القضائي، مع الانفتاح على التجارب المثمرة، والاستشراف للغد الأفضل.
أصحاب المعالي والسعادة، السيدات والسادة الأساتذة الأجلاء،
لقد بوأ المغرب، على الدوام، صدارة سياساته الداخلية والخارجية، الالتزام بالحق والمشروعية، وانتهاج سياسة فاضلة تعتمد الأخلاق والوفاء بالعهود، وكذا العمل الدؤوب على تحقيق الإنصاف، وترجيح التسوية القانونية، لفض كل المنازعات. وقد جعلنا من هذه المبادئ الكونية السامية، عماد مذهبنا في الحكامة الجيدة، سواء لاستكمال بناء وإعلاء صرح الديمقراطية، أو لاسترجاع أقاليمنا الصحراوية الجنوبية، وإنهاء النزاع المفتعل حول مغربيتها، بالحل السياسي المتوافق عليه، في نطاق الشرعية الدولية، وبما يكفل لسكانها، حكما ذاتيا، في نطاق سيادة المملكة ووحدتها الترابية، اقتناعاً منا بعدالة قضيتنا، ويقينا منا بالمنطق العصري لعالم اليوم، الذي لا يعترف إلا بالدول الديمقراطية القوية، والتكتلات الاقتصادية العملاقة، والذي لا مكان فيه للكيانات الهجينة والضعيفة.
وحرصاً منا على ترسيخ وتوسيع ما حققه المغرب من منجزات ديمقراطية ومكتسبات دستورية، مبنية على تفعيل ما التزم به من تشبث بحقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها عالميا، فقد عملنا على الانخراط في الأوفاق الدولية، ورفع التحفظات بشأن بعضها، التي صارت غير ذات موضوع مع ما اعتمدناه من تشريعات متقدمة في كل المجالات، مستكملين بذلك اندماج بلادنا التام في المنظومة الحقوقية العالمية. كما فتحنا أوراشا كبرى، كرست السمو بالمنظومة القانونية للمملكة، بما يصون الحريات، ويوسع مجالها، سواء من خلال إقرار مدونات جديدة ومتقدمة للانتخابات والشغل، علاوة على مشروع قانون الأحزاب السياسية الهادف إلى تأهيلها، للنهوض بدورها كاملا كرافعة أساسية للمشاركة الديمقراطية، وتكوين النخب المؤهلة للتدبير الجيد للشأن العام. أو على وجه الخصوص، بإعادة النظر في قانون المسطرة الجنائية، معززاً بذلك مقومات المحاكمة العادلة، آخذاً بالضمانات التي تحقق المساواة. كما تم تعديل قانون الصحافة والحريات العامة، بما يعطي لحرية التعبير مدلولها الحقيقي الملتزم.
وتأكيدا منه لمناهضة كل ممارسة منبوذة، قد تعرض الإنسان إلى التعذيب، وتخدش كرامته، فقد أفرد المغرب مقتضيات جزرية رادعة، تنهل من الاتفاقية الدولية، ذات الصلة بالموضوع، ضمن توجه شمولي وديمقراطي، لتحديث وإصلاح قانون الجزاءات، في إطار سياسة جنائية متقدمة. وقد كان منطلقنا في هذه الدينامية الحقوقية المتوالية والمتماسكة الحلقات، إقدامنا منذ اعتلائنا العرش، على المبادرة الشجاعة والفاضلة، لإحداث هيأة للإنصاف والمصالحة، والهادفة للطي الحضاري والنهائي والعادل لماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من لدن شعب لا يتهرب من ماضيه، ولا يظل سجين سلبياته، عاملا على تحويله إلى مصدر قوة ودينامية، لبناء مجتمع ديمقراطي وحداثي. وهذا ما أكدنا عليه خلال تنصيبنا لهيأة الإنصاف والمصالحة، التي أصبحت اليوم، بفضل ما وفرناه لها من أسباب التجرد والاستقلال، ووسائل التحري، وإجلاء الحقيقة، وجبر الضرر، وبفعل التزام ونضالية مكوناتها، في طليعة الهيآت القليلة المشهود لها، ليس فقط عربيا وإسلاميا وإفريقيا، بل عالميا، ومن قبل المنظمات المختصة، بالريادة، لما طبع عملها البناء، من إسهام فاعل، في جعل ما تنهض به من مهام العدالة الانتقالية، ركيزة أساسية لتحصين الانتقال الديمقراطي. تحدونا في ذلك عزيمة قوية لترسيخ حقوق وواجبات الإنسان، ثقافة وممارسة، والتربية عليها، في تلازم بين دمقرطة الدولة والمجتمع. وفي هذا السياق، دعمنا استقلال المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في نهوضه بحماية الحريات، وترسيخ المواطنة المسؤولة. كما أحدثنا ديوانا للمظالم، باعتباره مؤسسة وسيطة بين المواطن والإدارة، لإحقاق الحقوق، ورفع الحيف، في إطار الإنصاف. وبموازاة مع ذلك، عملنا على تجسيد ما نتقاسمه مع دول العالم المتقدمة، من مبادئ تخليق الحياة العامة، ومحاربة الارتشاء واستغلال النفوذ بكل أنواعه، وذلك بالتوقيع على الاتفاقية الدولية لمحاربة الفساد، والقيام ببلورة مضامينها، وبتفعيل المحاسبة والمراقبة البرلمانية والقضائية والإدارية، في ظل سيادة القانون.
كما أن المغرب يواصل، في توافق والتحام منقطعي النظير، مسيرته الحثيثة والرصينة، في اتجاه تحقيق المساواة، بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، وضمان التوازن والاستقرار الأُسري من خلال مدونة جديدة ورائدة للأسرة، جمعت بتوفيق من الله بين الحفاظ على الأصالة الوطنية، وبين الانفتاح على العصر، وإنصاف المرأة ورعاية حقوق الطفل. وتعميقا لمدلول المساواة بين المرأة، والرجل في هذا الاتجاه، قررنا تمكين أبناء المرأة المغربية من أب أجنبي من الجنسية المغربية، تجسيداً لصيانة تماسك العائلة المغربية، وترسيخا لوعي أبنائها بالمواطنة المسؤولة. ولكي يحقق المغرب، ما ننشده من تسريع وتيرة التقدم والتطور، أخذنا بالمنهج الشمولي للتنمية البشرية، الذي يتوخى توطيد المكاسب الهامة في مجال الحقوق الأساسية، بإيلاء أهمية قصوى للنهوض بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولهذه الغاية، أقدمنا على إطلاق "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية". هدفنا الأسمى جعل الإنسان في صلب عملية التنمية، ومحورها ووسيلتها وغايتها، ضمن منظور محرر للطاقات تشكل فيه الديمقراطية رديفا للتنمية والتضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص، الكفيل بتمكين كل مغربية ومغربي من الاستثمار الأمثل لمؤهلاتهما، في إطار مشاركتهما الفاعلة، في الحياة العامة، وبما يوفر لهما أسباب العيش الحر الكريم، الذي يعد الغاية المثلى لما ننشده لهما من المواطنة المسؤولة والكاملة.
وإن ما تم إنجازه، في هذه الأوراش المتعددة، ليصب بكل روافده، في اتجاه تحقيق تطلعات شعبنا الأبي وشبابه الطموح، وتجسيد إرادتنا في الرقي بالملكية الدستورية المغربية، إلى ملكية مواطنة، ملكية ديمقراطية فاعلة، لا تدخر جهداً في أن تجعل من المغرب بلداً جديراً بماضيه التليد، فاعلا في فضائه الجهوي والإقليمي، متعاونا مع المنتظم الدولي، في تحقيق السلم والتسامح والتضامن بين الشعوب.
وإننا إذ نرحب بكل المشاركين في هذا الملتقى الهام، منوهين بالمبادئ السامية، التي يقوم عليها اتحادكم الموقر، وبالمقاصد النبيلة، التي يسعى لتحقيقها، لواثقون بأن مؤهلاتكم القانونية والمهنية العالية، وخصالكم الأخلاقية الفاضلة، ستمكنكم من تتويج أعمالكم بالنجاح المحقق، على المعهود في اتحادكم العتيد، من التزام ومسؤولية، وروح نضالية، وحضور في سائر المحافل والجبهات الوطنية والدولية، ونصرة الحق والإنصاف والشرعية، سواء في المعاملات الفردية والجماعية، أو في مجال العلاقات الدولية.
وفقكم الله لما فيه المزيد من دعم قيم العدل، بالوسيلة الحضارية والديمقراطية للقانون، والدفع بالتي هي أحسن، وتعزيز استقلال القضاء، ومؤازرته على تحقيق الإنصاف، والدفاع عن القضايا العادلة، وجعل منكم فرادى وجماعات، على الدوام، طلائع ديمقراطية للمجتمع المدني، وللقوى الحية لكل أمة، وللبشرية جمعاء، في العمل الدؤوب والملموس، على ضمان كرامة الإنسان وأمنه على حريته وحقوقه، وحرمته الشخصية والعائلية، والوطنية والقومية، في كل ربوع العالم، وفي ظل الإخاء والمساواة والوئام، والتضامن والسلم بين كل الأنام.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ".