نص الرسالة الملكية السامية التي وجهها جلالته إلى ندوة "العالم العربي وإفريقيا.. تحديات الحاضر والمستقبل

الرباط يوم 15/10/2003

" الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
أصحاب المعالي والسعادة
حضرات السيدات والسادة
انه لمن دواعي ابتهاجنا ان يلتئم بالمغرب البلد الافريقي العربي هذا اللقاء الهام بين نخبة من خيرة مفكري ومثقفي الشعوب العربية والافريقية الشقيقة حول بحث العلاقات الجامعة بينها وذلك لتدارس انعكاسات تحديات حاضرها ورهانات مستقبلها في محاولة للتعرف على السبل الكفيلة بتجديد مفاهيمها وتحديد مشاريعها لولوج الألفية الثالثة برؤية واضحة واستراتيجية محكمة.
ان المغرب الذي يعتز بكونه ظل على الدوام ملتقى لتفاعل الحضارات والثقافات بفضل تشبثه بقيم الحرية والتسامح والانفتاح وبكونه مد جسور انتشار الإسلام وقيمه المثلى بأسلوب حضاري متميز لاسيما في غرب افريقيا ليقدر كل تقدير ما قامت به أقطار عربية وافريقية أخرى في شرقي افريقيا، وهكذا عرف تاريخنا المشترك تكريس تقاليد التبادل التجاري والثقافي والتفاعل الحضاري بين شعوبنا.
لقد كانت قوافل التجارة ووفود العلماء وانتقال الرحالة بين افريقيا والعالم العربي من دعاة السلام والوئام وتمتين التعارف بين العالم العربي والافريقي مما كان له أبلغ الأثر في تداول العلوم والاداب والفنون الأمر الذي أتاح لنا جميعا وفي عصور لم يكن التواصل فيها ميسرا الاستثمار الفعال لمعارفنا ومنتوجاتنا وابداعاتنا المتنوعة مثلما سمح بظهور تأثيرات متبادلة في طرق وانماط العيش وفنون العمارة والموسيقى والصناعات اليدوية وغيرها من ضروب النشاط الانساني.
ومما لاشك فيه ان هذه التجربة الفريدة تعد اليوم درسا نموذجيا في بناء علاقات وطيدة بين شعوبنا وحافزا قويا لها لمواصلة الدفاع عن المبادىء والمثل العليا التي نتقاسمها وللإسهام الفاعل في تأسيس ثقافة كونية أصيلة ترتكز على قيم الحوار والتعايش واحترام الآخر.
واننا لنتطلع إلى ان ينهض المثقف بدوره كاملا في ترسيخ هذا الارث الحضاري وجعله مرتكزا لاشاعة قيم الانسانية المثلى للسلم والإخاء والحرية والتسامح ومناهضة كل أشكال التمييز والتطرف والعنف والارهاب التي تنبذها الحضارة العربية الافريقية.
وإذا كنا معتزين بهذا الإرث المشترك مقتنعين بقدرته على مدنا بأسباب الاستمرار وحثنا على المزيد من التضامن والتآزر لمواجهة تحديات اليوم، فاننا نتطلع إلى مد جسور جديدة بين أقطارنا في وقت أصبحت فيه التكتلات الكبرى وسيلة من وسائل بناء القوة الاقتصادية والاجتماعية القادرة على تلبية الحاجات المادية والمعنوية للمواطنين.
وانطلاقا من هذا المنظور فاننا مطالبون بضرورة اعادة بناء العلاقات الافريقية العربية على أسس ثابتة وقوية في عالم أصبح يتسم بالتنافسية الشديدة وهيمنة الاقتصاديات الكبرى مما يجعلنا أمام خيار وحيد هو بناء المصالح المشتركة والاستثمار الأفضل للموارد المتاحة واستنهاض روح المبادرة التي كانت دائما عنصرا من صميم ثقافتنا لفتح آفاق جديدة للتبادل التجاري والثقافي تمكننا من تراكم أفضل لخبراتنا ومن تعبئة أكثر نجاعة ومردودية لثرواتنا وموءهلاتنا الطبيعية والبشرية.
" أصحاب المعالي والسعادة
حضرات السيدات والسادة
ان العالم من حولنا يتطور بوتيرة متسارعة ويطالبنا في كل يوم بمجهودات اضافية لايجاد أجوبة ملائمة وجريئة لما يواجهنا من تحديات، وبالنسبة لعالمنا العربي الافريقي فان قضايا الديمقراطية والتنمية وثقل المديونية والصحة والبيئة والهوية الثقافية وقضايا التربية والتعليم وأوضاع المرأة والطفولة وغيرها من القضايا الملحة بأولويتها وحساسيتها لم تعد تتحمل التأجيل أو الانتظار، لذلك وفضلا عما تقدمه السلطات العمومية والهيئات السياسية والاقتصادية وفعاليات المجتمع المدني من أجوبة عملية فان الحاجة باتت ملحة لبناء مقاربة شاملة توظف مختلف الأبعاد بما فيها البعد الثقافي والفكري، فليس هناك أمامنا أي خيار لانجاز تغيير حقيقي ونوعي في حياتنا بدون قاعدة فكرية وأخلاقية تربط بين الانسان ومحيطه وتجعل الاصلاحات التي ننهجها والمشاريع التي نختطها قائمة على ادراك عميق لحاجياتنا المادية والمعنوية وعلى قناعة راسخة بكوننا لانستطيع حل مشاكلنا بالوصفات الجاهزة بل بابتكار صيغ نابعة من تراثنا وتطلعاتنا مع اشراك واسع لكل طاقاتنا البشرية في بناء التصورات وتنفيذها، وهو ما يتطلب اعادة الاعتبار لمقومات هويتنا الثقافية والعمل من خلال ذلك على ايلاء عناية خاصة للانسان كقيمة حضارية راسخة وجوهر كل استراتيجية تنموية هادفة.
وكما قال والدي المنعم المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني قدس الله روحه فان "المغرب يشبه شجرة تمتد جذورها المغذية امتدادا عميقا في التراب الافريقي وتتنفس بفضل أوراقها التي يقويها النسيم الاوروبي بيد ان حياة المغرب ليست عمودية الامتداد فحسب بل هي تمتد كذلك امتدادا أفقيا نحو الشرق الذي نحن مرتبطون معه بالتالد والطارف من الصلات الثقافية. وحتى لو أردنا ونحن لانريد قطعا فانه من المستحيل علينا قطع هذه الصلات ".
واننا لواثقون بان العلاقات العميقة القائمة على هذا المستوى بين العالم العربي وافريقيا والمستندة إلى رصيد روحي ولغوي وحضاري هائل ستشكل منطلقا لتفكير مشترك في المستقبل يهيىء المناخ الملائم لبناء جسور اقتصادية وثقافية ثابتة مستحضرين في ذلك ثراء هذه الارض التي تعد منارة للاسلام والتشبع بتميزه بتكريم الانسان وتقديس قيم التضامن والتسامح.
" وان المغرب البلد ذي الهوية الموحدة الغنية بروافدها الامازيغية والعربية الإسلامية والاندلسية والافريقية والمنفتح على الحضارة الكونية والذي جعل من تحقيق الوحدة الافريقية التزاما دستوريا سيظل في طليعة المساهمين في الحوار العربي الافريقي وكذا مع فضاءات أخرى خاصة منها الإسلامي والاوروبي والامريكي ودول الجنوب على وجه الخصوص.
حضرات السيدات والسادة
لم يفتنا في قمة الجمعية العامة للدورة الحالية ان أعربنا عن التزامنا الثابت بالتضامن الفاعل مع الدول الافريقية الشقيقة وتعميق التعاون معها في الميادين السياسية والامنية والاقتصادية والاجتماعية ومساندة المبادرات الافريقية البناءة داعين المجتمع الدولي إلى تقديم دعم ملموس لاستراتيجية النيباد التي تتوخى التنمية المستدامة للقارة الافريقية.
كما لم يفتنا في نطاق دعمنا المستمر للمجهودات الافريقية ان ألغينا ديوننا على البلدان الأقل نموا منها واقامة نظام جمركي تفضيلي لتشجيع صادراتها نحو المغرب.
وان المغرب ليشيد بجهود كل الدول العربية والافريقية التي تعزز هذا الاتجاه معولا على المثقفين والمفكرين من العرب والافارقة في ان يكونوا في طليعة المدعمين لعرى الاواصر الاخوية الافريقية العربية والمدافعين عن الخيارات الوحدوية في وجه كل مناورات التجزئة والانفصال التي هي أشد خطرا على عالمنا الافريقي العربي من أي تهديد آخر.
وفقكم الله ورعاكم وسدد خطاكم في سبيل دعم التوجه الافريقي العربي المشترك من أجل ضمان غد أفضل لشعوبنا وأجيالنا الصاعدة.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".