نص الرسالة الملكية السامية الموجهة للمشاركين في ندوة "تحالف الحضارات في الفضاء العربي الإفريقي الإيبرو لاتينو أمريكي"

أصيلة يوم 03/08/2008

في ما يلي النص الكامل للرسالة السامية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس للمشاركين في ندوة " تحالف الحضارات في الفضاء العربي - الإفريقي - الإيبرو لاتينو أمريكي" التي تنظمها جامعة المعتمد بن عباد الصيفية في دورتها23 ضمن فعاليات الدورة30 لموسم أصيلة الثقافي الدولي.
 
"    الحمد لله وحده،والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه،أصحاب الفخامة والسمو،أصحاب المعالي والسعادة,السيدات والسادة الأساتذة الأفاضل،معشر الحضور الكريم,يطيب لنا أن نتوجه بالخطاب إلى هذه الندوة الهامة،حول "تحالف الحضارات"،التي تنظمها جامعة المعتمد بن عباد الصيفية،في إطار فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي.
ونود بهذه المناسبة،الإشادة بالجهود الخيرة،التي يبذلها الأستاذ محمد بن عيسى،الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة،وكافة أعضائها وشركائها،لتجسيد إرادة والدنا المنعم،جلالة الملك الحسن الثاني،أكرم الله مثواه،وإرادة جلالتنا الراسخة،كرئيس شرفي لهذا الملتقى،منذ تأسيسه،وذلك في جعل الثقافة رافعة أساسية للتنمية،وجسرا للتواصل الحضاري،وتوطيد المكانة الرفيعة لموسم أصيلة،وهو ما بوأ هذه المدينة الجميلة مكانة متميزة كحاضرة جذابة للسائح والمفكر والمبدع،ومنارة مشعة وطنيا وجهويا بموسمها،الذي غدا من الملتقيات المتألقة دوليا.
ومن هذا المنطلق،نثمن الموضوع الهام والراهن،لندوة هذه الدورة الثالثة والعشرين،مرحبين بمقدم والتقاء صفوة من الباحثين والمفكرين،ورجالات السياسة والاقتصاد،والإعلام المرموقين،على أرض المغرب،لمواصلة الحوار البناء،حول تحالف الحضارات،في الفضاء العربي- الإفريقي،والإيبيرو- لاتينو أمريكي.
ولا غرو في ذلك،فإن المغرب قد شكل عبر العصور،وما يزال،جسرا للقاء بين شتى الثقافات،ونموذجا لتفاعل الحضارات المتتالية من تاريخه العريق،من أمازيغية وفينيقية،ورومانية وإفريقية،وشرقية،ومتوسطية وأوروبية.
فقد تمازجت،فوق ربوعه،مكوناتها وروافدها،في هوية مغربية متميزة،بلغت أوجها،بانفتاحها على الحضارة العربية الإسلامية الوافدة،بما حملته إليه،من عقيدة سمحة،تجسد في رسالتها،الإيمان والالتزام بالقيم الإنسانية المثلى،للإخاء والتعايش،والتعارف بين الشعوب.
ويشهد التاريخ للمغرب أنه،بشخصيته المنفتحة،كان له إسهامه المشهود،في تمكين هذا النسيج الحضاري الخصب والخلاق،من الانتقال،بواسطة قنوات شتى،صوب ثلاثة اتجاهات كبرى.
أما الأول،فنحو أوروبا،عبر شبه الجزيرة الإيبيرية،حيث تحقق انصهار ثقافي واجتماعي،ساعد على انبثاق طراز حضاري متنوع،وازدهار فكري،مهد لبزوغ عصر النهضة الأوروبية.
فقد كانت الأندلس،المشتل الذي نمت فيه وترعرعت،حضارة غنية بتعدد روافدها،من علوم وفنون وآداب،وعمران،ومن قيم مشتركة،إيمانا وحبا للحياة،تنويرا للعقل،وتكريما للإنسان،وهو ما نهلت منه أوروبا،وبعدها العالم الجديد.
وقد كان الاتجاه الآخر،نحو العمق الإفريقي،حيث انتشرت في جنبات قارتنا،ببلدان الساحل المجاورة،وشرقا وغربا عبر التجارة والتصوف،مظاهر الحضارة المغربية،فاستقبلتها حضارات أخرى،وتفاعل المحلي بالوافد،وتواصلت الدورة الحضارية،جاعلة من المغرب ملتقى للشمال بالجنوب،والمشرق بالمغرب،وفضاء متميزا لتلاقح الثقافات.
وكان المسار الثالث،في اتجاه أمريكا اللاتينية،حيث تلاقحت حضارتها العريقة،بالحضارات الإفريقية والعربية،من خلال جالية مشرقية،وأوروبية إيبيرية،وانصهرت روافدها المتشابهة،في عراقتها وتلقائيتها وقيمها الثقافية،لتفرز تراثا حضاريا غنيا،تشهد به مختلف أنماط العيش،وشتى أشكال الإبداع والآداب والفنون،كما هو شأن أدب المهجر بأمريكا الجنوبية،الذي يعد ثمرة انفتاح الأدب العربي على فكر العالم الجديد،بقيمه التحررية.
حضرات السيدات والسادة،إن اختياركم لموضوع "تحالف الحضارات" في فضاء تتميز بلدانه بانسجامها وتواصلها،تاريخيا وثقافيا وحضاريا،ليعد استمرارا طبيعيا ومنطقيا،لمبادرات طيبة ودعوات صادقة،أعلنت عن نفسها في أوقات وسياقات متقاربة،وعبرت جميعها عن انشغالات شخصيات فكرية وسياسية رفيعة،لمواجهة خطر التزمت والانغلاق والإرهاب،وتأجيج التطرف بالأطروحة الزائفة لصدام الحضارات.
وما فتئت بلادنا تتخذ كل المبادرات،وتنخرط بقوة في كل الجهود الخيرة،العربية منها والإفريقية والإيبيرية والأورو-متوسطية والأسيوية،إيماناً منا بأن الصدام لا يكون إلا بين الجهالات،أما الحضارات،فإن جوهرها التفاعل،لما فيه خير الإنسانية جمعاء،في نطاق احترام خصوصيات الهويات والثقافات.
وفي هذا الصدد،كان المغرب في طليعة المساهمين في قمة نيويورك الأممية،الخاصة بتحالف الحضارات.
وهنا نود التنويه بانخراط الأمينين العامين للأمم المتحدة،السابق والحالي،في تفعيل نتائجها،بجعل المنتظم الأممي يعزز هذا التوجه الإنساني النبيل في ميثاقه.
كما شاركت بلادنا،في دعم منتدى مدريد،وفي تشجيع المخطط العام لمسار "تحالف الحضارات"،وساندت بقوة،إضفاء عمق حضاري على الاتحاد الواعد،من أجل المتوسط.
ومن شأن إثراء الميثاق الأممي بالقيم السامية،المستمدة من الدعوات الصادقة بهذا الخصوص،تقوية رسالة الأمم المتحدة،من أجل إشاعة السلم،واستتباب الأمن والاستقرار بين الدول والشعوب،وتعزيز إسهاماتها في المنظومة الحضارية الكونية.
ولهذه الغاية،ندعو جميع المؤمنين بتسامح وتعايش الديانات،وبتلاقح وتفاعل الحضارات،للتصدي للنزعات الهدامة،المحدقة بها جميعا.
فالحضارات الإنسانية،ليست سوى سلسلة مترابطة ومتكاملة الحلقات،وهي بذلك ملك للبشرية جمعاء،لذا،لا يجوز لأي أمة أو شعب،مهما بلغت درجة إسهامه فيها،ادعاء احتكارها،أو الوصاية أو الاستعلاء عليها.
وإن المغرب،كأرض للتمازج العربي-الإيبيري والإفريقي،ليتوق دائما إلى مد جسور التفاهم والتعاون بين الحضارات،مركزا على القواسم المشتركة بينها،معتمدا في ذلك حسن الجوار،ونهج الحوار والتفاوض الجدي،وسيلة لحل النزاعات،في نطاق احترام سيادة الدول ووحدتها الوطنية والترابية،فضلا عن جعل التعاون والتنمية المشتركة،آلية بامتياز لترسيخ الأمن والاستقرار،وصيانة الكرامة الإنسانية،وبخاصة في إفريقيا.
أصحاب الفخامة والسمو والمعالي,حضرات السيدات والسادة،تجسيدا لتطلعنا إلى توفير المناخ العلمي،الكفيل بإقامة الحوار على أسس موضوعية،فإننا ندعو فعاليات مؤسسة منتدى أصيلة،للانكباب على إنجاز دراسات معمقة،وإجراء مسح شامل للفضاء الحضاري العربي الإفريقي،والإيبيرو-لاتينو-أمريكي،بمختلف عناصره ومكوناته.
وذلكم خير منطلق لتجسيد ما نتوخاه،من قيام مؤسسة تعنى بتعزيز النهوض بتحالف الحضارات,في تعميق البحث المقارن في هذا الشأن،انطلاقا من قاعدة الترابط بين مكونات النسق الحضاري الكوني،ومن اعتبار أن الإنسان وحضارته،مهاجران بطبعهما،تحكمهما الحركية والتلاقح،ومسافران زادهما في الحل والترحال،المعرفة والاتصال.
وإننا واثقون من أنكم،بما تمثلونه من مستوى معرفي راق،ومشارب فكرية متنوعة،وبما لكم من دراية بمختلف ألوان الحضارات،ستغنون هذه الندوة الهامة،بما هو معهود فيكم من بعد النظر،وتجرد واستقلال في الرأي،وشجاعة في الجهر بالحقيقة،في نطاق الحوار العقلاني البناء،والاحترام المتبادل.
ويظل هدفنا الجماعي،هو انبثاق مواطنة كونية،ونظام عالمي منصف ومتعدد الأطراف،يجعل من العالم قرية للإنسانية جمعاء،تسودها قيم الإخاء والمساواة والديمقراطية،والتنمية المشتركة،والتضامن الإنساني،لمواجهة خصوم الإنسانية كافة،وهي الفقر المادي،والبؤس الفكري،والجهل والإقصاء،والتهميش والتعصب،والظلم والقهر،والعدوان والإرهاب.
فهذه الآفات هي أعداء الحضارات،والتي ينبغي أن يكون التصدي لها،عماد تحالف حضاراتنا العريقة،لبناء مستقبل أفضل للإنسانية جمعاء،وللمستضعفين من شعوبها،وخاصة بقارتنا الإفريقية.
 
وإننا لعلى يقين بأن روح المغرب الحضارية،بتسامحها وانفتاحها،ستلهم ندوة أصيلة،وحواركم البناء،وأعمالكم القيمة،وتوصياتكم الوجيهة،وبذلكم ستساهمون في دعم جهود التعاون والتضامن جنوب- جنوب،في تكامل مع ثقافات آسيا العريقة،وبلدانها الناهضة،ومع شركائنا في دول الشمال.والله تعالى أسأل أن يوفقكم،ويكلل جهودكم بالنجاح،والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".