نص الكلمة السامية التي ألقاها جلالة الملك خلال مأدبة العشاء التي أقامها جلالته على شرف الرئيس المالي

الرباط يوم 15/06/2000

"الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على رسول الله وآله و صحبه
فخامة الرئيس
أصحاب السعادة
حضرات السيدات و السادة
إن الخطب التي تقتضيها الأعراف في مثل هذه المناسبات " فخامة الرئيس" تشكل لحظات متميزة للترحيب بالضيوف الكبار الذين يشرفون بلدا ما عندما يزورونه وشعبه. وهي أيضا كما هو الشأن بالنسبة للقائنا اليوم لحظات أكثر تميزا لأنها فضلا عن كونها تستجيب لمتطلبات الترحيب البرتوكولي تعكس في الوقت ذاته العواطف الجياشة والفرحة الغامرة التي نشعر بها أنا و شعبي ونحن نستقبل في شخصكم فخامة الرئيس ذلك الزعيم الكبير لبلد ذي تاريخ عريق و شعب عظيم غني بحضارته. ذلكم الغنى الذي يجعل الأمم تفتخر بمصيرها و أصالتها.
إن المملكة المغربية وهي تستقبلكم والوفد المرافق لكم لتستقبل فيكم أحد ذويها. ذلك أن البعد الأخوي لروابطنا الحميمة التي تضرب جذورها في أعماق تاريخنا المشترك عبر القرون جعل هذه الروابط تصمد في وجه التقلبات التي عرفتها بعض الحقب.و لهذا فإن المملكة المغربية تعتبر نفسها " فخامة الرئيس" وطنكم الثاني. وقد عملت هذه القرون بالخصوص على بلورة الجانب الإفريقي في هويتنا ذلكم الجانب الذي يتجلى في ثقافتنا و في حياتنا اليومية و في تقاليدنا و عاداتنا و أغانينا و فنوننا بل يتعدى ذلك إلى فن الطبخ لدينا.
إن هذه الحميمية العريقة بين بلدينا قد كرستموها '' فخامة الرئيس'' بحضوركم إلى جانبنا و إلى جانب الشعب المغربي خلال تشييع جنازة والدنا المنعم جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه لأنه في ذلك اليوم رحل عنا واحد من ذويكم كان يشعر بأنه إفريقي بقدر ما هو مغربي و لم يكن يعادل تشبثه بإفريقيا إلا حبه لبلده و لأنه رحمه الله كان شغوفا على الخصوص بفكرة كون الجانب الإفريقي للمغرب يشكل ذلك العنصر الذي يصهر إلى الأبد - في إطار الاحترام و الصداقة و الأخوة و التفاهم - عملنا المشترك في مواجهة تحديات عصرنا الكبرى و كما تعلمون فخامة الرئيس حضرات السيدات و السادة فإن العلاقات بين المملكة المغربية و مالي- كما يشهد التاريخ على ذلك – ليست وليدة اليوم إذ أن الحوليات ترجعها إلى القرن الثاني عشر أي إلى عهد الموحدين.
و منذ ذلك الوقت وهذه العلاقات تتغذى وتتعزز وتغتني عبر تيار مبادلات لا ينقطع يشمل الأشخاص و الممتلكات والقيم و الأفكار. وهذه الاستمرارية التي ترسخت على الدوام تمثل بحق بالنسبة إلينا رمز الوفاء لمثل السلام و الحكمة التي نشترك فيها مع جميع الأمم .
فهذه الحكمة نشترك فيها معا لأن شعبينا يستلهمانها من الدين الإسلامي الحنيف الذي يجمع بيننا و الذي ورثناه عن آبائنا و أجدادنا بتعاليمه السمحة و قوة روحانيته التي بلغت'' فخامة الرئيس'' درجة جعلت القوافل التي كانت تربط بين سجلماسة بالمغرب و تومبوكتو و دجيني بمالي لا تقتصر على نقل منتوحات تجارية فحسب بل كانت تنقل أيضا كل الحكمة الإفريقية وكل تلك الأخلاق الفاضلة وقيم العدل التي من الإسلام الإفريقي - على حدود عالم كان قد بدأ يتجرد من إنسانيته– إسلاما كثير التقوى و الورع متميزا بدرجة فريدة من النبل و التسامح.
و هذه الحكمة نستمدها فخامة الرئيس في مجال السياسة أيضا من الجهود التي بذلها أسلافنا من أجل تحرير و انعتاق البلدان الإفريقية التي كانت حينئذ ما تزال ترزح تحت نير الاستعمار.
فقد عرف جدي جلالة المغفور له محمد الخامس و الرئيس الراحل موديبو كيتا كيف يجعلان من هذه الفضيلة ممارسة متبصرة للتضامن بين الدول و الشعوب كما مكن دور كل منهما و تطابق تفكيرهما داخل مجموعة الدار البيضاء و ضمن عملية إعداد ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية من إسماع صوت إفريقيا في المنتظم الأممي و تحقيق تقدم لا يقل أهمية عن ذلك في تبويئها المكانة التي تستحقها في المجتمع الدولي.
و اجتماعنا اليوم '' فخامة الرئيس'' يندرج في سياق هذا الإرث و في إطار الوفاء لوحدة المصير هذه التي حررت بالأمس شعبينا وتعمل اليوم كما ستعمل غدا بدون كلل من أجل تحقيق تقدمهما وازدهارهما ورفاهيتهما و استقرارهما في عالم يقل استقراره و يزداد تقلبه يوما عن يوم.
وبهذا سنشرف ذاكرة الأجيال التي سبقتنا وبه أيضا سنبرز للأجيال المقبلة المثل العليا التي هي مثلنا و التي ينبغي أن تكون مثلهم كذلك و المتمثلة في مزيد من السلم و مزيد من العدل و مزيد من الحقيقة و مزيد من الإنصات للمعاناة المادية و المعنوية لمن هم في أوضاع صعبة و مزيد من الالتزام أيضا تجاه أولئك الذين همشتهم الأقدار أو راحوا ضحية سوء تصرف الإنسان.
فخامة الرئيس..
لقد تم إضفاء دينامية جديدة على تعاوننا بالقاهرة في شهر أبريل الماضي على هامش أشغال قمة إفريقيا / أوروبا و هو ما تعزز بانعقاد الدورة الثالثة للجنة المشتركة خلال الشهر الحالي بالرباط. و إن هذه الدينامية لتثلج صدرنا وتسعدنا لأنها تبعث على الأمل وتبشر بمستقبل واعد وتجعل من جودة تعاوننا الضامن الأساسي الذي سيجسد هذه البشائر والمحرك الضروري لإستمراريتها.
وإذا كان التقدم الذي تحقق بقارتنا على درب الديمقراطية وإرساء مؤسسات كفيلة بتعزيزها من أجل تفتح شعوبنا وتوجهها نحو مزيد من الازدهار باديا للعيان ويحظى أحيانا بإعجابنا فإن الملاحظ أن هذا التقدم مهدد بأن يبقى هشا ومضطربا وعسيرا طالما أن حجم الصعوبات المتنوعة التي تشهدها قارتنا يمكنه في أي وقت أن يعرضه للخطر إن لم يقض عليه.
ذلك أن عودة عدم الاستقرار السياسي إلى الظهور من جديد وتزايد بؤر التوتر وتصاعد العنف في عدد من مناطق قارتنا وخاصة في القرن الإفريقي وإفريقيا الغربية والبحيرات الكبرى بلغت درجة من الحدة ترهن الآن معها وسترهن لوقت طويل التنمية الاقتصادية والإجماعية والثقافية لمجموع القارة الإفريقية
إن هذا الوضع يشغل بالنا على الخصوص كما يشغل بال جميع ذوي النية الحسنة من الرجال والنساء الذين يدركون أن السلام والوئام هما الوسيلتان الوحيدتان اللتان تمكنان كل شخص وكل أمة من استعادة الكرامة ونهج الطريق التي ستؤدي إلى مزيد من الرفاهية والسعادة.
إن هؤلاء الرجال والنساء دوي النية الحسنة ببلدكم يلتفون حولكم ويدعمون مجهوداتكم " فخامة الرئيس " كما يساندون بإيمان العمل البناء الذي تقومون به ليس فقط على مستوى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا بل أيضا على مستوى القارة الإفريقية برمتها.
وهذا الدور الوازن اعترفت به وكرسته مؤخرا المجموعة الدولية عندما انتخبت بلدكم بمجلس الأمن اقتناعا منها بأن مالي ستضطلع بهذه المسؤولية بحكمة وشجاعة خدمة لمصلحة إفريقيا واحتراما لكرامة هذه القارة وللبشرية.
فخامة الرئيس
إن مسيرة بلد ما نحو مزيد من التقدم والازدهار تتوقف على مدى الاستجابة للحاجيات الأساسية للإنسان والمتمثلة في الصحة والتشغيل والتعليم والسكن والترفيه والثقافة. غير أنه لايمكن تلبية هذه الحاجيات بدون التحكم في البنيات الأساسية في كافة المجالات. فالدين الخارجي الذي ما زال ينهك الميزانيات وقدرتها على تمويل هذه التجهيزات وتلبية الحاجيات يعوق وسيظل يعوق بشكل أكبر تحقيق الرفاه الذي يعتبر أحد أبسط حقوق الإنسان.
لقد شكل الحرص على إيجاد حل ملائم للأزمة الاقتصادية والإجماعية الحالية التي تعيق كل محاولة للتنمية المستدامة الشغل الشاغل لوالدنا جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه وهو اليوم في صميم ما آمله من أعماقي لإفريقيا.
ومن هذا المنظور كان والدي المنعم قد اقترح في سنة 1994 وضع مشروع تنموي طموح لفائدة القارة الإفريقية على غرار مخطط مارشال ومستلهم من هذا البرنامج الذي ساهم في إعادة بناء أوربا بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد أعلنت أنا شخصيا خلال قمة إفريقيا " أوربا بالقاهرة عن إلغاء مجموع الديون المستحقة للمغرب على البلدان الإفريقية الأقل تقدما ورفع كل الحواجز الجمركية التي كانت مفروضة على المنتوجات المستوردة من هذه الدول.
ذلك أن محور التعاون جنوب - جنوب يشكل بالنسبة لبلدي وبالنسبة لي شخصيا حجر الزاوية الكفيل بتأمين أكبر قدر ممكن من الانسجام في تلبية الحاجيات الأساسية لشعوبنا وكذلك لترسيخ المسلسل الديمقراطي وبالتالي تحقيق المزيد من الاستقرار و الإنصاف.
فخامة الرئيس..
إن آفاق تعاوننا الواعدة بفضل تجدرها التاريخي وبفضل المثل والمبادئ التي تحكم أبعادها العالية لتجعلني آمل أن تعمل فضائل الحوار والتشاور والتفاهم التي تحرك هذا التعاون النموذجي على تحريك أمم وشعوب أخرى بقارتنا الإفريقية حتى يصبح السلم والعدالة هما الأساس الذي ستنبني عليه الرفاهية التي تطمح إليها شعوبنا وأممنا.
أصحاب السعادة
حضرات السيدات والسادة
أدعو الحضور إلى الوقوف تعبيرا عن الاحترام والتقدير الذين نكنهما جميعا لأخينا الرئيس ألفا عمر كوناري والإعراب عن أصدق متمنياتنا بالازدهار والتقدم لمالي و للشعب المالي وباستمرار العلاقات المغربية والمالية في ظل الصداقة والأخوة.
''والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته''