نص الكلمة السامية التي ألقاها جلالة الملك في حفل العشاء الرسمي على شرف الرئيس جاك شيراك والسيدة حرمه

فاس يوم 09/10/2003

"الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه..
فخامة رئيس الجمهورية،
السيدة المحترمة،
أصحاب السمو الملكي،
أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
في هذه اللحظة المتميزة وفي هذه المدينة ذات التاريخ العريق نود ان نعبر عن مدى ابتهاجنا العميق باستقبال صديقنا الكبير فخامة السيد جاك شيراك رئيس الجمهورية الفرنسية.
لقد سبق لكم فخامة الرئيس ان قلتم بباريز في مارس 2000 ان "ملك المغرب هنا في بيته". وبالمثل اسمحوا لي فخامة الرئيس ان أقول لكم بدوري ان رئيس الجمهورية الفرنسية وهو يحل بالمغرب يعتبر في بيته وبين ذويه.
ان مدينة فاس التي تتشرف باستقبالكم هي في صميم تاريخنا باعتبارها أول عاصمة للبلاد والمكان الذي شهد تأسيس الدولة المغربية انطلاقا من أواخر القرن الثامن الميلادي. وفي أحضانها نشأت أول جامعة في العالم الإسلامي وهي جامعة القرويين التي أسستها السيدة الفاضلة أم البنين فاطمة الفهرية، وبهذه الحاضرة كذلك تألق علماء أجلاء نذكر من مشاهيرهم الجغرافي الشريف الادريسي وابن ميمون والموءرخ ابن خلدون، وانتم تعلمون سيادة الرئيس كم كانت قوية جاذبية فاس بالنسبة لمفكرين فرنسيين مرموقين مثل لوي ماسينيون وجاك بيرك اللذين عرفا العالم الغربي بجوانب كان يجهلها عن الحضارة المغربية.
السيد الرئيس،
منذ زيارة الدولة التي قمنا بها لفرنسا عرف العالم أحداثا جسيمة زعزعت ما كان يوقن به من ثوابت وشككت في الكثير مما تأكد لديه من قناعات.
وان تفاقم مظاهر العنف والارهاب قد حول انظارنا عن المعارك الأساسية التي يتعين خوضها لمواجهة آفات البوءس والمرض والجهل وشغلنا عن النضال المتواصل من أجل توفير كل حظوظ النجاح لتحليل التنمية المستديمة والأخذ بناصية العولمة.
"وفي هذا العالم المضطرب حيث الأهواء تتأجج على حساب العقل وحيث القيم الكونية تتوارى خلف محاولات الاقصاء عرفتم فخامة الرئيس كيف تسمعون صوت فرنسا الوفية لرسالتها باعتبارها مهد اعلان حقوق الانسان والمواطن، وقد عبرتم عن ذلك بشجاعة وجرأة بل وباقتناع وإصرار دائمين.
وما فتئتم سيادة الرئيس تعملون بدون كلل من أجل تقوية دور منظمة الأمم المتحدة في معالجة الأزمات والحفاظ على السلم وتغليب قوة القانون على قانون القوة في احترام لكرامة الشعوب وأمن الدول.
لذا فاننا في هذا المساء نحيي فيكم قبل كل شيء رجل المبادىء الراسخة ورئيس الدولة الملتزم.
فخامة الرئيس،
اننا نقدر بامتنان ما تبذلونه من جهود رائدة متواصلة لصالح افريقيا وتنميتها واستقرارها، فقد دأبتم على تحسيس الدول المتقدمة والمؤسسات الدولية بحاجات القارة الافريقية التي تتطلع إلى نمو مطرد وتعمل جاهدة على التحكم في تنميتها المستديمة، وان انتماء المغرب لإفريقيا يجعله ينضم بدون تردد إلى كل المساعي الرامية لتحقيق تعاون ثلاثي يستهدف تحسين ظروف عيش الشعوب الافريقية.
السيد الرئيس،
ان فرنسا والمغرب تربطهما علاقات فريدة نسجاها ضمن إطار مافتىء يتجدد ويتأقلم مع تطور الاقتصاد والمجتمع في بلدينا.
وفي هذا السياق أبرم بلدانا اتفاقية جديدة للتعاون بينهما توطد أركان شراكة استراتيجية مفتوحة على المستقبل قائمة على التضامن والاحترام المتبادل، من شانها ان تفتح آفاقا واعدة من خلال توسيع دور المجتمع المدني والجماعات المحلية والقطاع الخاص.
وفيما يخص المغرب فانه عازم على المضي قدما بمشروعه الاصلاحي لتطوير بنياته الاقتصادية والاجتماعية وتحديثها مع منح الأولوية للاستثمارات الاجتماعية وسياسات القرب، وهو ما يعني اننا اخترنا لانفسنا بناء مجتمع ديمقراطي منفتح متضامن متشبث بقيمه العريقة، جاعلين من تطوير المدرسة وتحرير المرأة ومناهضة الاقصاء اللبنات الأساسية في بناء مستقبل أفضل لشعبنا.
ومن المعول على بلدينا ان يشجعا جاليتينا المهاجرة على المساهمة في تقوية الروابط الاقتصادية وتمتين الأواصر الثقافية والانسانية التي تجمع بين شعبينا الصديقي في نطاق احترام قوانين كل منهما وقيمه ".
السيد الرئيس،
لقد أبنتم باستمرار عن وعي عميق بأهمية دور فرنسا بالنسبة لمستقبل المنطقة الأورو متوسطية.
واننا لنثمن ما قام به بلدكم لجعل الاتحاد الاوروبي يعلن عن استعداده للتباحث مع المغرب في إمكانية تحديد وضع متقدم أكثر من الشراكة وأقل من العضوية.
كما نعلم مدى تمسككم بمسلسل برشلونة الذي أصبح استئنافه ضرورة ملحة ويتوقف على تعزيز التعاون حول مشاريع ثنائية واقليمية وقطاعية. وهو ما هدف إليه إعلان أكادير الذي يندرج في هذا السياق ليشكل تقدما ملموسا على درب الشراكة الاورو متوسطية.
السيد الرئيس،
انه لمن الطبيعي ان يحتل اتحاد المغرب العربي موقعا متميزا في الشراكة الاورو متوسطية التي هي في طريق البناء، وان المملكة المغربية لتنتهز هذه المناسبة لتوءكد بقوة ومن جديد تمسكها بالمشروع المغاربي في امتداده الاستراتيجي وجدواه الاقتصادي وأبعاده الانسانية والثقافية مصرين على ان نتجاوز بالحوار كل الصعوبات الموضوعية التي مازالت للأسف تعرقل تحقيق هذا الأمل الكبير على أسس سليمة قائمة على الثقة المتبادلة.
واننا لممنونون لما تقوم به فرنسا من عمل ايجابي لصالح حل سياسي عادل وواقعي للنزاع المصطنع الموروث عن الحرب الباردة والمفتعل حول استكمال وحدتنا الترابية.
" السيد الرئيس،
ان مسلسل برشلونة يظل شديد التأثر بمأساة الشرق الأوسط وأمام تصاعد العنف وآلام الشعب الفلسطيني الشقيق نؤكد تعلقنا بالشرعية الدولية وتفعيل خارطة الطريق بهدف الوصول إلى انشاء دولة فلسطينية لها مقومات البقاء لتعيش جنبا إلى جنب مع دولة اسرائيل في سلام وأمن يشملان كل شعوب المنطقة.
اننا مدركون ما تكتسيه هذه الكلمات من معان لها وزنها العميق في هذا المكان بالذات الذي احتضن القمة العربية عام 1982 والذي أرست فيه حكمة والدنا المنعم صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني قدس الله روحه دعائم حل عادل ودائم لنزاع الشرق الأوسط، كما انكم تعلمون ان ايماننا بتقاليدنا في الحوار والسلم يظل راسخا قويا لا يتزعزع خصوصا في هذا الظرف الدقيق.
وفي هذه المدينة العريقة تحدثنا كل الأزقة والفضاءات عن تعايش الأجناس والمعتقدات بتسامح صادق. وهذا الرصيد الخلقي والروحي الذي نتقاسمه مع فرنسا يستوجب منا مقاومة الارهاب الدولي ونبذ التطرف بكل أشكاله ومظاهره. وقد شكل هذا الموقف معطى ثابتا في سياستنا الخارجية التي أثرت دوما طريق التشاور والحوار.
ومن نفس المنطلق نعبر عن أملنا في ان يسترجع الشعب العراقي الشقيق كامل سيادته في أحسن الظروف وأقرب الاجال ويمارسها من خلال مؤسسات ديمقراطية.
السيد الرئيس،
ان الروابط القوية التي نسجها التاريخ بين شعبينا وما نكن لكم فخامة الرئيس من صداقة وتقدير وما تبدون انتم شخصيا وحكومتكم من مساندة لنا كلها عوامل كفيلة بانجاح شراكتنا الاستراتيجية.
مرة أخرى مرحبا بكم في المغرب وبالسيدة شيراك والوفد المرافق لكم.
حضرات السيدات والسادة،
أطلب منكم ان تقفوا إجلالا وتقديرا لفخامة رئيس الجمهورية الفرنسية وعقيلته.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".