نص الخطاب السامي الذي وجهه أمير المؤمنين أمام المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الاقليمية

الدار البيضاء يوم 30/04/2004

" الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
حضرات السيدات والسادة
لقد دأبنا منذ تقلدنا إمارة الموءمنين ملتزمين بالبيعة المقدسة وما تقتضيه من حماية الملة والدين على إيلاء الشان الديني الأهمية الفائقة والحرص على قيام مؤسساته بوظائفها على أكمل وجه والعناية بأحوال الساهرين عليها والسير على النهج القويم لأسلافنا المنعمين في الحفاظ على الأمن الروحي للمغرب ووحدة المذهب المالكي.
وإذا كان من طبيعة تدبير الشوءون الدنيوية العامة الاختلاف الذي يعد من مظاهر الديمقراطية والتعددية في الآراء لتحقيق الصالح العام فان الشان الديني على خلاف ذلك يستوجب التشبث بالمرجعية التاريخية الواحدة للمذهب المالكي السني الذي أجمعت عليه الأمة والذي نحن موءتمنون على صيانته، معتبرين التزامنا دينيا بوحدته المذهبية كالتزامنا دستوريا بالوحدة الترابية والوطنية للأمة، حريصين على الاجتهاد الصائب لمواكبة مستجدات العصر.
وتجسيدا لما أعلنا عنه في خطاب العرش الأخير وخطاب 29 ماي 2003 بالدار البيضاء وما اتخذناه من إجراءات وتدابير لازمة لذلك ها نحن اليوم نشرع في إرساء وتفعيل ما سهرنا على إعداده من استراتيجية مندمجة وشمولية متعددة الأبعاد ثلاثية الأركان لتأهيل الحقل الديني وتجديده تحصينا للمغرب من نوازع التطرف والإرهاب وحفاظا على هويته المتميزة بالوسطية والاعتدال والتسامح.
أما الركن المؤسسي فيقوم على إعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشوءون الإسلامية بإصدارنا لظهير شريف بإحداث مديرية للتعليم العتيق وأخرى مختصة بالمساجد وإعادة النظر في التشريع المتعلق بأماكن العبادات بما يكفل ملاءمتها للمتطلبات المعمارية لأداء الشعائر الدينية في جو من الطمانينة وكذا ضبط مصادر تمويلها وشفافيتها وشرعيتها واستمراريتها.
وقد أمرنا بتعيين مندوبين جهويين للوزارة ليسهروا على التدبير الميداني الحديث للشوءون الإسلامية مؤكدين على إحياء مؤسسة الأوقاف وعقلنة تسييرها لتظل وفية لمقاصدها الشرعية والتضامنية الاجتماعية ومتنامية بإسهام المحسنين فيها.
وإدراكا من جلالتنا بان هذا الركن المؤسسي لا يمكن ان يستقيم إلا بتعزيزه بالركن التأطيري الفعال فاننا قد وضعنا طابعنا الشريف على ظهائر تعيين أعضاء المجالس العلمية في تركيبتها الجديدة،مكلفين وزيرنا في الأوقاف والشوءون الإسلامية بتنصيبها لتقوم من خلال انتشارها عبر التراب الوطني بتدبير الشان الديني عن قرب وذلك بتشكيلها من علماء مشهود لهم بالإخلاص لثوابت الأمة ومقدساتها والجمع بين فقه الدين والانفتاح على قضايا العصر حاثين إياهم على الإصغاء إلى المواطنين ولاسيما الشباب منهم بما يحمي عقيدتهم وعقولهم من الضالين المضلين حريصين على إشراك المرأة المتفقهة في هذه المجالس انصافا لها ومساواة مع شقيقها الرجل.
وصيانة للحقل الديني من التطاول عليه من بعض الخوارج عن الإطار المؤسسي الشرعي فقد أسندنا إلى المجلس العلمي الأعلى اقتراح الفتوى على جلالتنا بصفتنا أميرا للمؤمنين ورئيسا لهذا المجلس فيما يتعلق بالنوازل الدينية سدا للذرائع وقطعا لدابر الفتنة والبلبلة، مؤكدين ان توسيعنا وتجديدنا للمجالس العلمية لا يعادله إلا حرصنا على ألا تكون جزرا مهجورة من لدن العلماء غير الأعضاء بها بل نريدها ملتقى لكل العلماء المتنورين.
وفي هذا الصدد أبينا إلا ان يشمل إصلاحنا رابطة علماء المغرب لإخراجها من سباتها العميق وإحيائها بشكل يجعل منها جهازا متفاعلا مع المجالس العلمية وذلك بإصدار ظهير شريف لتنظيمها وتركيبها في إطار يحمل إسمنا الشريف بحيث نطلق عليها إسم "الرابطة المحمدية لعلماء المغرب" مكونة من العلماء الموقرين الذين يحظون بسامي رضانا وعطفنا.
وعلما منا بان الوظائف التأطيرية المنوطة بهذه الهيئات ستظل صورية ما لم تقم على الركن الثالث الأساس المتمثل في التربية الإسلامية السليمة والتكوين العلمي العصري فاننا مواصلة للجهود الرائدة التي بذلها والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني قدس الله روحه، نصدر تعليماتنا لحكومتنا قصد اتخاذ التدابير اللازمة باناة وتبصر لعقلنة وتحديث وتوحيد التربية الإسلامية والتكوين المتين في العلوم الإسلامية كلها في نطاق مدرسة وطنية موحدة.
وفي هذا السياق حرصنا على تأهيل المدارس العتيقة وصيانة تحفيظ القران الكريم وتحصينها من كل استغلال أو انحراف يمس بالهوية المغربية مع توفير مسالك وبرامج للتكوين تدمج طلبتها في المنظومة التربوية الوطنية وتجنب تخريج الفكر المنغلق وتشجيع الانفتاح على الثقافات.
واننا لنتوخى من كل ذلك ليس فقط تمكين بلادنا من استراتيجية متناسقة كفيلة بتأهيلها لرفع كل التحديات في مجال الحقل الديني بقيادة إمارة الموءمنين اعتبارها موحدة للأمة ورائدة لتقدمها بل أيضا بالإسهام العقلاني الهادف لتصحيح صورة الإسلام مما لحقها من تشويه مغرض وحملات شرسة بفعل تطرف الأوغاد الضالين وإرهاب المعتدين الذي لا وطن ولا دين له.
انه الإسلام الأصيل كما جاء به خاتم الانبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والذي ارتضاه المغاربة دينا لهم لملاءمته لفطرتهم السليمة وهويتهم الموحدة على طاعة الله ورسوله ولأمير الموءمنين الذي بايعوه على ولاية أمرهم فحماهم من بدع الطوائف وتطرف الخوارج عن السنة والجماعة.
وستجدون خديم المغرب الأول في طليعة المتصدين لكل التيارات الهدامة والدخيلة على مجتمعنا الغيور على نقاء ووسطية الإسلام من قبل كل المغاربة بما فيهم رعايانا الأوفياء المقيمون بالخارج مستبشرين خيرا باقتران انطلاق هذا الإصلاح الشامل بحلول عيد المولد النبوي الشريف بكل ما يرمز إليه ميلاد جدنا المصطفى عليه السلام وإلى رسالته التي كانت فجرا لانبثاق حضارة إسلامية سمحة أسهمت بنصيبها الوافر في ترسيخ المثل الانسانية السامية وتكريم الانسان بإخراجه من الظلمات إلى النور والدعوة إلى التعاون على البر والتقوى والنهي عن الإثم والعدوان سائلين الله ان يصلح أعمالنا وأعمالكم ويجعلنا ممن "يستمعون القول فيتبعون أحسنه" صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".