نص الخطاب السامي الذي ألقاه جلالة الملك خلال افتتاح السنة القضائية

أكادير يوم 29/01/2003

"الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
حضرات السيدات والسادة القضاة،
يسعدنا أن نجعل من افتتاحنا للسنة القضائية مناسبة لإضافة لبنات جديدة في مسار إصلاح جهاز العدل لما يكفله القضاء المستقل والنزيه والفعال من سيادة القانون وإشاعة الثقة والأمن على الأشخاص والممتلكات وتحفيز التنمية والاستثمار وتوطيد الاستقرار وترسيخ الديمقراطية التي نضعها فوق كل اعتبار.
فهل مكنت الجهود التي بذلت في هذا الشأن من بلوغ الأهداف المنشودة. كلا إننا مع تنويهنا بما تحقق من منجزات نعتبر أن برنامج إصلاح القضاء طموح وشاق وطويل وإننا لعازمون على تسريع وتيرته لتحديث جهاز العدل وتخليقه وتأهيله. وها نحن اليوم نتخذ تدابير ملموسة ليسهم القضاء في البناء الجماعي لمغرب الديمقراطية والتنمية.
وهكذا وتجسيدا لنهجنا الراسخ للنهوض بالاستثمار وتفعيلا لما ورد في رسالتنا الموجهة لوزيرنا الأول في هذا الشأن فإننا ندعو حكومتنا إلى مواصلة الجهود لعصرنة القضاء بعقلنة العمل ‏وتبسيط المساطر وتعميم المعلوميات. كما يجب تنويع مساطر التسوية التوافقية لما قد ينشأ من منازعات بين التجار، وذلك من خلال الإعداد السريع لمشروع قانون التحكيم التجاري، الوطني والدولي، ليستجيب نظامنا القضائي لمتطلبات عولمة الاقتصاد وتنافسيته ويسهم في جلب الاستثمار الأجنبي.
وسيرا على هذا النهج التحديثي فقد أصدرنا تعليماتنا السامية إلى وزيرنا في العدل كي يعمل على فتح أقسام لقضاء الأسرة في أهم المحاكم ويحرص على أن تعم، فيما بعد كل أنحاء المملكة وعلى الإسراع بتكوين قاضي الأسرة المتخصص لأن قضاء الأحوال الشخصية الحالي غير موءهل لتطبيق مدونة الأسرة التي نحرص على إنجازها بكامل الاهتمام ترسيخا لتماسك العائلة في ظل التكافوء والإنصاف.
"ولهذه الغاية وبدلا من إحداث صندوق للنفقة قد يفهم منه التشجيع غير المقصود على أبغض الحلال عند الله وتشتيت شمل الأسرة فإننا نصدر توجيهاتنا إلى حكومتنا قصد الدراسة المتأنية لإيجاد صندوق للتكافل العائلي يعتمد في جزء من موارده على طوابع ذات قيمة رمزية توضع على الوثائق المرتبطة بالحياة الشخصية والعائلية وترصد نفقاته على أساس معايير مدققة مستهدفين من ذلك ضمان حقوق الأم المعوزة وحماية الأطفال من التشرد الناتج عن الطلاق.
وتظل غايتنا إيجاد قضاء متخصص يكفل الفعالية في البت في المنازعات ويضمن الحق في المحاكمة العادلة ومساواة المواطنين أمام القانون في جميع الظروف والأحوال. لذلك نأمر حكومتنا، بأن تنكب على دراسة وضعية محكمة العدل الخاصة وأن ترفع إلينا ما توصلت إليه من اقتراحات ءاخذة بعين الاعتبار ما تفرضه ضرورة وجود قضاء متخصص في الجرائم المالية حريص على تخليق الحياة العامة وحماية المال العام من كل أشكال الفساد وترسيخ ثقافة وأخلاقيات المسوءولية.
ولأن تأهيل العدالة رهين بالتكوين الجيد للقضاة وبتحسين الوضعية المادية للقضاة المبتدئين والأعوان القضائيين فإننا نهيب بحكومتنا أن تنظر في مراجعة وضعيتهم المادية ووضع نظام أساسي محفز لكتاب الضبط، تحصينا لهم من كل الإغراءات والانحرافات المخلة بشرف القضاء ونزاهة رسالته.
كما ندعو إلى إحداث ودادية خاصة بموظفي العدل تتكفل برعاية أحوالهم والنهوض بمهنتهم في نطاق عمل جمعوي منسجم مع خصوصية القضاء الذي لا يعتبر مرفقا إداريا وإنما هو موءسسة دستورية يتعين أن تظل محصنة من كل تأثير أو ضغط مهما كان شكله أو مصدره موءكدين موصول عنايتنا الشاملة بأحوال أسرة العدل بقرارنا إحداث الموءسسة المحمدية للأعمال الاجتماعية لقضاة وموظفي العدل.
وبموازاة ذلك، فإننا ننتظر من حكومة جلالتنا أن تسرع بتفعيل ما يوفره إصلاح نظام التعليم والتكوين الجامعي والقضائي من إمكانات الانفتاح والشراكة لتأمين تكوين عصري ومتين لقضاتناولكل المهن المرتبطة بالعدالة.
" وإن ما نوليه من رعاية شاملة للبعد الاجتماعي في مجال العدالة لا يستكمل إلا بما نوفره من الكرامة الإنسانية للمواطنين السجناء التي لا تجردهم منها الأحكام القضائية السالبة للحرية.
ولقد تأثرنا بالغ التأثر لما وقع في بعض السجون من حوادث موءلمة. لذلك وبموازاة مع الإصلاح المتقدم الذي شمل قانون السجون، وبرنامج العمل الطموح الذي نسهر على أن تنهض به موءسسة محمد السادس لإعادة إدماج نزلاء الموءسسات السجنية فقد أصدرنا تعليماتنا قصد الإسراع ببناء مركبات سجنية عصرية مدنية وفلاحية والاعتناء بالظروف المادية والمعنوية للسجناء.
وللتخفيف من معاناة بعض الفئات من السجناء الذين يحظون بعطفنا لاعتبارات إنسانية فقد أصدرنا توجيهاتنا السامية لوزيرنا في العدل ليرفع لنظرنا السديد اقتراحات بالعفو الملكي على مجموعة من السجناء المصابين بمرض عضال أو العاجزين أو المعاقين أو النساء الحوامل والمرضعات أو الأطفال ذوي المهارات التربوية والفنية بحسب معايير ولوائح إسمية مدققة سنعلن عن قرارنا بشأنها في الوقت المناسب.
كما أننا ندعو الحكومة إلى اغتنام المهلة المحددة لتفعيل القانون الجديد للمسطرة الجنائية من أجل تكوين وتأهيل قضاة تنفيذ العقوبات لمتابعة سلوك السجناء التائبين والإسهام في توسيع فرص الإفراج.
والله تعالى نسأل أن يعينكم- معشر القضاة- على إقامة العدل بكل ما يتطلبه من استقلال واستقامة وكفاية واجتهاد ‏وحماية لأمن وسلامة وحرمة المواطنين وكيان الأمة والدولة من كل عمل إجرامي أو إرهابي. فتلك سبيلكم إلى استحقاق شرف النيابة عن جلالتنا في تحملمسوءولية القضاء، التي نناشدكم ان تتقوا الله في جسامة أمانتها. وذلك طريقكم لترسيخ ثقة المتقاضين ومصالحتهم مع القضاء وإشاعة العدل الذي جعلناه قوام مذهبنا في الحكم وغايته وعماد ما ننشده لشعبنا الحر الأبي من تطور ديمقراطي وتماسك اجتماعي وتقدم اقتصادي.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".