نص الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة الجديدة للمجلس الأعلى للقضاء

الرباط يوم 01/03/2002

  "الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
   حضرات السادة..
   ما فتئنا منذ تقلدنا الامانة العظمى لقيادة شعبنا والتي يعتبر القضاء من صميم مسوءولياتها نوجه حكومتنا والبرلمان الى الاهمية القصوى التي نوليها لاصلاح القضاء وتحديثه وتأهيله للاسهام الفعال في المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي الذي نسهر على تحقيقه.
   وقد أبينا اليوم ومن خلال رئاستنا لافتتاح دورة المجلس الاعلى للقضاء الا أن نتوجه الى هذا المجلس  ومن خلاله الى كافة أسرة العدل بخطاب مباشر يستهدف ابراز مدى المسوءلية الجسيمة الملقاة على عاتق القضاة انفسهم في اصلاح الجهاز الموءتمن على العدل الذي يتوقف عليه كسبنا لرهان الديمقراطية والتنمية.
   واننا لنعتبر أن قضاء واعيا كل الوعي بحتمية هذا الرهان وموءهلا لاستيعاب التحولات التي يعرفها المغرب لهو القادر وحده على رفع هذا التحدي مواصلا ومعززا رسالته التقليدية المتمثلة في السهر على ضمان النظام العام وتأمين السلم الاجتماعي مستجيبا في نفس الوقت لمتطلبات جديدة تتمثل في ضرورة حرص القضاء على التفعيل والتجسيد الملموسين لمفهوم ومضمون بناء الديمقراطية ودولة الحق بضمان سيادة القانون ومساواة الجميع أمامه في جميع الظروف والاحوال.
   كما يجب على القضاء ان يوفر الروءية التوقعية الحقوقية المطمئنة والموضحة للضمانات التي يكفلها القانون معززا بذلك مناخ الثقة التي تعد حجر الزاوية للاقتصاد الليبرالي مساهما في النهوض بالاستثمار والنماء الاقتصادي.
  لذا حرصنا على اعادة الاعتبار للقضاء وتأهيله وتطهيره من كل النقائص والشوائب المشينة محددين بكل حزم ووضوح سبيل الاصلاح الذي لا مناص منه. وقد تحقق بالفعل تقدم لاجدال فيه حيث تم ايقاف مسلسل التدهور والمضي قدما في عملية اعادة البناء وعصرنة العدالة مما مكن من تعزيز الاستقلال الفعلي للقضاء وتقوية سلطته في تجسيد المساواة أمام القانون والاسراع في تنفيذ الاحكام.
   وفيما اخذت المحاكم الادارية والتجارية تعطي ثمارها في مجال ترسيخ سيادة القانون سواء في علاقات الادارة بالمواطن او في ميدان الاعمال فقد تحققت على المستوى التشريعي اصلاحات هامة في انتظار أخرى هي في طريق الانجاز من شأنها استكمال بناء صرح العدالة وتعزيز قدرات المحاكم للتغلب على البطء باعتماد القضاء الفردي فضلا عن اضفاء البعد الانساني على قانون السجون وعصرنة القضاء الجنائي واعادة تاهيل المهن القضائية وتحسين تكوين القضاة وكافة الاعوان القضائيين وكذا ظروف عملهم في العديد من المحاكم
   وبالرغم مما قطعناه من خطوات فان اصلاح القضاء لايزال بعيدا عن الهدف الذي نتوخاه له ودون الطموحات المشروعة للمتقاضين وللمجتمع. ولذا فاننا مصممون على أن ياخذ تسريع النهج الاصلاحي وتيرته القصوى. فقد دقت ساعة الحقيقة معلنة حلول وقت التعبئة الكاملة والقوية للقضاة ولكل الفاعلين في مجال العدالة للمضي قدما باصلاح القضاء نحو وجهته الصحيحة وانتهاء زمن العرقلة والتخاذل والتردد والانتظارية.
   وفي هذا الصدد يجب على المجلس الاعلى للقضاء أن يعزز المكتسبات وينخرط بكل حزم ووضوح في هذا الورش الاصلاحي الكبير مضطلعا بمهامه الدستورية كاملة في السهر على ضوابط وأخلاقيات القضاء بالمعاقبة التأديبية الحازمة والصارمة لكل الذين أثبتوا عدم أهليتهم لتحمل ما طوقوا به من مسؤوليات بسبب تفريطهم وتجاوزاتهم أو الذين أساؤوا لسمعة القضاء بسلوكهم وتصرفاتهم والذين ينسفون في لحظة واحدة بانحرافاتهم الشائنة ما تحقق من منجزات خلال سنوات من الكد والجهد.
   كما ينبغي للمجلس أن يعمل بنفس الحزم والعزم على النهوض  بدوره الاساسي في تعزيز الضمانات التي يكفلها الدستور للقضاة معتمدا المساواة والتجرد في تدبير وضعيتهم المهنية بناء على المعايير الموضوعية المضمنة في نظامه الداخلي الذي حظى بمصادقتنا السامية حريصا على مكافأة خصال النزاهة والاستقامة والاستحقاق ونكران الذات والجدية والاجتهاد والشجاعة.
   وإننا إذ ندعو المجلس  لمضاعفة جهوده لتوطيد استقلال القضاء وتقويته فإننا نؤكد بأن هذا الاستقلال لا يعد امتيازا مخولا للقاضي ليعمل بهواه بمنأى عن كل محاسبة بل إن مبدأ استقلال القضاء يعد بالاحرى قاعدة ديمقراطية لكفالة حسن سير العدالة وضمانة دستورية لحماية حقوق المتقاضين وحقا للمواطنين في الاحتماء بقضاء مستقل ومحايد.
   ولاننا حريصون على عدم تسخير هذا المبدأ كمطية لاغراض أخرى فإن على المجلس أن ينأى بنفسه وبصفة نهائية عن كل النزعات الفئوية المهنية والانتخابوية الضيقة والممارسات المنحازة حتى يحقق لذاته الاستقلال اللازم ويدرك بنفسه ويرسخ الوعي لدى الغير بأن الاستقلال هو الشرط الملازم للمسؤولية جاعلا مصلحة الامة فوق كل اعتبار.
   حضرات السادة،
   إن التعبئة الشاملة التي يتطلبها الورش الكبير لاصلاح القضاء تستلزم المشاركة الفعالة والواسعة للقضاة فيه. وهنا يبرز الدور المنوط بالودادية الحسنية للقضاة التي ننتظر منها وفي نطاق مهامها وأهدافها أن تواكب هذا الاصلاح وتدعمه بكل فعالية متيحة بذلك لجميع القضاة الاسهام في تجديد الصرح المشترك للعدالة وإضافة قيمة جديدة لبرامج التعاون الدولي والانفتاح على العالم القضائي والتكوين المستمر وتحديث القضاء.
   ولكي يتأتى للودادية ذلك  ينبغي لها أن تستيقظ من سباتها العميق وأن تكف عن الحسابات والصراعات المتجاوزة وتقوم بمراجعة وتحيين نظامها الاساسي بما يكفل لها استيعاب التطور الفكري والتحولات التي يعرفها المشهد القضائي وكذا تجديد هيئاتها المسيرة بما يضمن لها تعبئة طاقات جديدة وإناطة المسؤولية بها.
   وبذلكم تسترجع الودادية إشعاعها وتحمل من جديد مشعل استقلال القضاء والدفاع عن حقوق القضاة وتحدد النهج القويم لعملها ولمساهمتها في إصلاح القضاء الذي يوجد اليوم في قلب عملية تغيير المجتمع وتحديثه ودمقرطته وبناء دولة الحق والقانون والنماء والتقدم أي في صميم اختيارات استراتيجية لارجعة فيها وتحديات مصيرية يجب على المغرب أن يرفعها وهو ما لن يتم إلا بالمساهمة الحاسمة والفعالة للقضاء.
   وإننا لنهيب بكل  القضاة الحريصين كل الحرص  على النهوض بمسؤوليتهم التاريخية والمحافظة على شرف وكرامة الامانة الملقاة على عاتقهم أن يعملوا على مصالحة المغاربة مع جهازهم القضائي واستعادة ثقتهم في شموخ وعظمة عدالة مستقلة نزيهة كفأة وقوية جديرة بما يرمز إليه إسمها من توقير واحترام.
   والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".