نص الخطاب الذي وجهه جلالة الملك إلى قمة حركة عدم الانحياز

هافانا يوم 15/09/2006

( تلى الخطاب الوزير الأول السيد إدريس جطو )


"الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
السيد الرئيس،
نود في البداية أن نعرب عن خالص متمنياتنا بموفور الصحة والعافية لفخامة السيد فيديل كاسترو، رئيس جمهورية كوبا. ويطيب لنا أن نتوجه إليكم بتهانئنا الحارة والصادقة، بمناسبة تقلدكم رئاسة حركة عدم الانحياز العتيدة، معربين لكم عن تعاون المملكة المغربية الكامل، لإنجاح مهامكم الجليلة. كما ننوه بجهود مملكة ماليزيا الشقيقة، في شخص وزيرها الأول، معالي السيد عبد الله بن حاجي أحمد بدوي، على حسن قيادته لحركتنا خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
السيد الرئيس،
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والمعالي،
حضرات السيدات والسادة،
لقد شكل مؤتمر بلغراد، بفضل حكمة وتبصر الرواد التاريخيين لحركتنا، حدثاً حاسماً في القرن العشرين، بوضعهم أسس حركة عدم الانحياز، ورسم النهج الذي سلكته دولنا الحديثة الاستقلال آنذاك، برفض الانسياق في دوامة الحرب الباردة، والعمل على استعادة كرامتها، وأداء رسالتها في تحقيق التوازن الدولي، والسعي نحو دمقرطة العلاقات الدولية، والانخراط الفاعل في معركة التنمية. ذلكم الطموح الذي ما زال اليوم يراودنا جميعاً، لصنع مستقبل متطور وآمن للبشرية.
لذا، فإن تأقلم حركتنا مع المتغيرات العالمية، التي يشهدها مطلع الألفية الثالثة، يطرح علينا تحديات كبيرة تهم الوجود والمصير. وفي هذا السياق، ولكي تستعيد مؤسستنا حيويتها، وتواصل مسيرتها، كقوة اقتراحية وازنة في المجتمع الدولي، فإنها مطالبة بإصلاح عميق وجوهري لمناهج عملها، وفتح آفاق أوسع لاندماج دولها، وتدعيم التوافق فيما بين مكوناتها، والحفاظ على وحدتها.
وهو الأمر الذي يتطلب منا التزاماً سياسياً جماعياً، ووضع آليات للتفكير والاقتراح والتنسيق، لكسب الرهانات، ورفع التحديات التي نواجهها، بحكم الحروب والنزاعات الداخلية، والفقر والأمراض الفتاكة، والتهديدات الإرهابية.
ومن هنا، بادر المغرب للإسهام الفعلي في هذا المسار، عن طريق تقديم عدة اقتراحات وتصورات، ولا سيما ما يتعلق بإحداث "مجموعة تفكير"، بهدف تدعيم القدرات التفاوضية لحركتنا، من خلال إشراك القوى الحية ببلداننا، ومؤسساتنا البرلمانية، ومختلف الفرقاء الاجتماعيين، وفعاليات المجتمع المدني، في تطوير وإغناء إطار التشاور، وإرساء قواعد الشراكة والتعاون، حرصا على الاستثمار المشترك لمواردنا ومؤهلاتنا الهائلة.
وفي هذا الصدد، لنا كامل الثقة في الإرادة التي أبانت عنها الرئاسة الكوبية، موقنين أنها لن تدخر جهدا في سبيل تحقيق أهداف حركتنا. وتعد الاقتراحات الواردة في وثائق العمل المطروحة على أنظار هذه القمة، بمثابة خريطة طريق حقيقية لأعمال حركتنا خلال السنوات المقبلة، بالنظر إلى طابعها الشمولي.
السيد الرئيس،
إن العالم اليوم، لفي أمس الحاجة إلى نظام حكامة دولي أكثر تمثيلية، وأوفر ضماناً لسلام دائم، ولتحقيق تنمية مستدامة، تقوم على التضامن، وتشجع تحالف الحضارات وحوار الثقافات.
وفي هذا السياق، يتعين على حركتنا أن تساهم بكامل ثقلها، في توطيد نظام متعدد الأطراف حقيقي، وتعزيز دور الهيئات الدولية، ودعم جهودها الإصلاحية، وترسيخ العمل الجماعي، والتضامن الدولي، من أجل عالم أكثر إنصافا، وأوفر أمنا واستقرارا. وفي هذا الإطار، يؤكد المغرب على المشاركة الفعالة لحركة عدم الانحياز في مسلسل إصلاح منظومة الأمم المتحدة.
كما أن الترابط القائم بين بلداننا لمواجهة الأخطار المتعددة الأبعاد، يتطلب منا تعبئة طاقاتنا لاحتواء بؤر التوتر والصراع، والتصدي لآفة الإرهاب، ومحاربة انتشار أسلحة الدمار الشامل وتهريب الأسلحة. وذلك باعتماد مقاربات ملائمة، للتعامل مع الأسباب العميقة لآفات عصرنا، مع الأخذ بعين الاعتبار لضرورة الانسجام مع روح شراكة صادقة مع دول الشمال، ترسيخاً لتقاليدنا الداعية للحوار والانفتاح والتقارب.
وفي هذا الإطار، فإن حركتنا مطالبة بالنهوض بدعائم السلم والعدل والإنصاف، واحترام حقوق الإنسان، والمساهمة الناجعة في تسوية الخلافات الجهوية، ارتكازا على الثوابت التي قامت عليها حركة عدم الانحياز.
فكما تعلمون، فإن المبادئ العشر المؤسسة لحركتنا تعد حجر الزاوية لفض النزاعات الدولية بالوسائل السلمية في احترام تام لقدسية سيادة الدول ووحدتها الترابية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. هذه المبادئ التي ينبغي حتماً أن نهتدي بها في معالجة النزاعات المنتشرة عبر العالم وخاصة بقارتنا الإفريقية والشرق الأوسط، هذه المنطقة التي عرفت في الشهور الأخيرة، تصعيدا في العدوان المؤجج لصراعاتها المريرة.
وفي هذا الخصوص، وبصفتنا رئيساً للجنة القدس، نؤكد على ضرورة إيجاد تسوية عادلة ودائمة لقضية الشعب الفلسطيني الشقيق، بتمكينه من استرجاع حقوقه الوطنية المشروعة، وإقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف، استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية و" خارطة الطريق"، وتمشياً مع مبادرة السلام العربية التي تقوم على الأرض مقابل السلام.
كما نعرب مجدداً عن دعمنا القوي للبنان الشقيق، لتجاوز مخلفات الحرب، وإعادة الإعمار، وتثبيت السيادة الوطنية كاملة. وبنفس مشاعر التضامن، نتطلع لعراق موحد ومتماسك، تنتفي فيه أعمال العنف والمواجهات المؤلمة.
السيد الرئيس،
إن التنمية البشرية تحظى بصدارة انشغالاتنا، لمواجهة ما يعانيه ما يقرب من نصف سكان المعمور من فقر مدقع، ونقص في التغذية، وسكن غير لائق، وتدني الشروط الصحية، وضعف الخدمات الطبية، وتفشي الأمية والأمراض الفتاكة. ولن يتأتى لنا ذلك إلا من خلال استراتيجية تنموية حقيقية، تعتمد بالأساس على مؤهلاتنا وإمكاناتنا الذاتية، وتقوم على التعاون والتضامن بين دولنا.
وتحقيقاً لهذا الهدف، يجب العمل على تعزيز التعاون جنوب-جنوب، والارتقاء بعلاقاتنا إلى مستوى شراكات متميزة، مشجعة على الاندماج والتقارب، وتكثيف حركة التجارة والاستثمار، والعمل على بلورة أقطاب اقتصادية كبيرة، ذات تنافسية عالية، جديرة بتشكيل قوة اقتراحية وتفاوضية مؤثرة على الصعيد الدولي.
ووفق نفس التوجه، نولي أهمية قصوى لتنشيط مسلسلات التعاون، سواء ضمن الفضاءات البين - جهوية، أو المنتديات ذات البعد القاري، كما هو الشأن بين الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية، في أفق انعقاد القمة المقررة في سنة 2008 بالمغرب، أو على نطاق نفس القارة مع الدول الإفريقية من جهة، وكذا على مستويات مختلفة مع الدول الأسيوية من جهة أخرى.
وإن إقامة تعاون أفقي متين ومتنوع بين بلداننا، ستعطي دفعة جديدة لاقتصادياتها، بما يضمن القوة والازدهار والرفاهية لشعوبنا. كما أن انضمام مجموعة 77 زائد الصين إلى جهودنا، لمن شأنه أن يحقق مكسباً ثميناً وتحالفاً قاراً بين المجموعتين.
وفي هذا السياق، فإن المغرب لم يفتأ يعمل في هذا الاتجاه، معبئاً لذلك وسائله البشرية والمادية، وموظفاً تجربته وخبرته في خدمة التنمية المستدامة بأفريقيا. وقد تجلى التزامه التضامني الفاعل مع الدول الإفريقية الأقل نمواً في إلغاء ديونها، ورفع الحواجز الجمركية أمام منتوجاتها، وتشجيع الاستيراد من هذه البلدان الشقيقة والصديقة، وإنجاز مشاريع تنموية تناسب ظروف وحاجيات سكانها، وذلك ضمن الإطار الثنائي أو الثلاثي الأطراف.
وفي الختام، نود التذكير بأن روح باندونغ وما تحمله من مبادئ السلم والاعتدال والحياد الإيجابي، ومن قيم الصداقة والتضامن، ما تزال تشكل القاعدة الملائمة والفاعلة لمواجهة التحديات العالمية، وبناء أفضل العلاقات بين الأمم. وإن المصير المشترك لكافة دول عدم الانحياز، لكفيل بأن يرسم أمامنا العديد من السبل القويمة، على غرار تلك السبل الوجيهة التي رسمتها حركتنا عبر تاريخها الحافل.

شكراً لحسن إصغائكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".