نص الخطاب الذي وجھه جلالة الملك إلى القمة العربیة الاقتصادیة المنعقدة بالكویت

الكویت يوم 19/01/2009

وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس خطابا ، إلى القمة العربية الاقتصادية والتنموية والاجتماعية المنعقدة حاليا بالكويت ، تحت شعار "التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة".
وفي ما يلي نص الخطاب الملكي:
  "الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
صاحب السمو، الشيخ صباح الأ حمد الجابر الصباح، رئيس القمة،
أصحاب الجلا لة والفخامة والسمو،
أصحاب المعالي والسعادة،
يطيب لي أن أتقدم بالشكر الجزيل، لأخي المبجل، سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت الشقيقة، على كريم استضافته، ورئاسته الحكيمة لهذه القمة.
كما أشيد بجهود معالي السيد عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، للتحضير لها.
إن الظرفية العربية العصيبة، التي تنعقد فيها هذه القمة، المكرسة، أصلا، للشؤون التنموية، تقتضي منا الانكباب على القضايا السياسية الملحة لأمتنا. وفي طليعتها القضية المصيرية للشعب الفلسطيني الشقيق.
وإن المغرب، إذ يجدد التزامه الراسخ بنصرة هذا الشعب الصامد، وتضامنه الملموس، فإنه لا يكتفي بالاستنكار الشديد للعدوان الإسرائيلي الغاشم، على قطاع غزة ، بل إننا نعتبر أن استفحال مأساة هذا الشعب المكلوم، يتطلب مواجهتها بإرادة مشتركة، ورؤية جماعية، قوامها العمل الصادق والتحرك الناجع، من أجل إنهاء العدوان والاحتلال ونبذ العنف ورفع الحصار الجائر، وهو ما يقوم به المغرب، ملكا وحكومة وشعبا، بكل صدق والتزام.
وفي هذه المرحلة الدقيقة، فإن المساعي الشكلية، والنوايا الطيبة، لم تعد مجدية، بقدر ما أصبح الوضع يتطلب الالتزام الفعلي والحزم في تطبيق الشرعية الدولية.
فالمجتمع الدولي الآن، أمام محك حقيقي في منطقة الشرق الأوسط، المشحونة بالعديد من بؤر التوتر التي لا تهدد فقط استقرارها وأمنها، وإنما أيضا الأمن والسلم الدوليين.
ومما يزيد الوضع تعقيدا، تمادي إسرائيل في رفض إنهاء الصراع المرير، على أسس قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، التي أقرت بقيام علاقات طبيعية مع إسرائيل مقابل انسحابها الكامل من كل الأراضي العربية المحتلة.
وإن المأساة التي يعيشها الفلسطينيون، تقتضي منهم جميعا المزيد من التحلي بروح المسؤولية ونكران الذات والابتعاد عن الحسابات الضيقة. وذلك بالعمل على رص صفوفهم وحل خلافاتهم بالحوار الأخوي البناء.
كما يجدر بهم استحضار التضحيات الجسيمة التي قدمها وما يزال، أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع على امتداد أزيد من نصف قرن.
وإن من واجبنا نحن العرب أن نبلور مبادراتنا، بما يخدم وحدة الصف الفلسطيني ويساعده على تجاوز خلافاته، بعيدا عن التجاذبات، أيا كان مصدرها ومراميها وبما يقوي مؤسساته الوطنية الشرعية.
وذلك هو السبيل القويم لخوض مفاوضات هادفة، لإقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف، دولة تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل، على أساس مبادرة السلام العربية ومقررات الشرعية الدولية التي تكفل السلام العادل والدائم والشامل لكل شعوب المنطقة.
أصحاب الجلا لة والفخامة والسمو والمعالي،
إن القضية الفلسطينية تظل في صلب تحديات مصيرية كبرى ورهانات استراتيجية خارجية، لكون منطقتنا تعد منطقة استقطاب، ولكن أيضا داخلية، متمثلة في التطلعات الوحدوية والتنموية لشعوبنا التي يظل تحقيقها رهينا برفع هذه التحديات.
وهذا ما يقتضي من الجميع العمل الجاد على توفير مناخ يطبعه الحوار والوضوح والتصافي. بدءا من تنقية الأجواء وتجاوز الخلافات الظرفية، التي أضحت مزمنة والنزاعات المفتعلة، هدفنا الجماعي بناء نظام إقليمي عربي، قائم على التضامن والتكامل والاندماج في احترام لوحدة الدول العربية ولخصوصياتها وثوابتها الوطنية.
وإن دقة الموقف، تتطلب تقوية قدرات الأمة، لبناء قوة اقتصادية قومية، باعتبارها أقوى دعامة للمواقف السياسية وخير تجاوب مع تطلعات شعوبنا لتأهيلها لكسب قضاياها العادلة.
وبانعقاد هذه القمة في ظرفية مالية دولية عصيبة وغير مسبوقة مشحونة بأزمة غذائية وبالتداعيات الحادة للعولمة الشرسة على النمو الاقتصادي، فإنها تسائل أمتنا، عن مدى قدرتها على تجسيد إرادتها، في جعل التنمية قاطرة حقيقية لوحدة وتقدم الوطن العربي وتعزيز حضوره الدولي.
وفي هذا السياق، فإن تفعيل خطة تنموية، وتكامل اقتصادي قومي مشترك، يعد بمثابة التحدي المصيري العربي الأول. وعندما أقول التفعيل، فلأن العالم العربي يشهد هيمنة التنظير على حساب العمل الملموس، حتى إن الوحدة تكاد أن تتحول، في غياب استراتيجية عملية، إلى مجرد شعار أو سراب.
لذا، فإن مصداقية أي توجه اقتصا دي واجتماعي وسياسي قومي، تقتضي وضع خارطة طريق تنموية عربية ملزمة، بأهدافها وآلياتها، لاسيما أن بلداننا تتوفر على كل مقومات الاندماج، من أواصر روحية وحضارية وثقافية عريقة وموقع جيو-استراتيجي متميز وموارد بشرية وطبيعية متكاملة، لم يتم استثمارها على الوجه الأ كمل.
ويظل الهدف الأسمى لسياساتنا الاقتصادية والاجتماعية، تمكين الإنسان العربي من كل شروط العيش الحر الكريم. ولن يتأتى ذلك إلا بالتوظيف العقلاني لإمكاناتنا المادية والاستثمار الأمثل في مجال ثروتنا الأساسية، المتمثلة في مواردنا البشرية والمواطن المؤهل.
ومن منطلق الاقتناع بهذا التوجه، قمنا بإطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
وقد حققنا بفضل هذه المبادرة المغربية المقدامة، التي تضع الإنسان في صلب عملية التنمية، نتائج مشجعة مكنت من تقليص مظاهر الفقر والتهميش والإعاقة، وكذا من إشراك المواطنين وهيآت المجتمع المدني والقطاعين العام والخاص في برامجها وأوراشها المضبوطة : تخطيطا وإنجازا ومتابعة.
إخواني القادة العرب،
لا يخفى أن ضمان الأمن الغذائي والما ئي، يشكل أحد التحديات العربية الراهنة والمستقبلية. لذا، ندعو إلى وضع خطة زراعية عربية، مدعومة باستراتيجية مائية، في أفق تحقيق الا كتفاء الذاتي الذي يتوفر وطننا العربي على كل عناصره.
وباعتبار الموارد البشرية المؤهلة، ثروة العصر الحقيقية، فإن تنمية أقطارنا لن تتحقق إلا بإصلاح وتحديث أنظمة التعليم والتكوين وتحرير الإنسان العربي من براثن الجهل والأمية ومن نزوعات الانغلاق والتواكل والتعصب، وكذا العمل على نشر الفكر العقلاني المتنور وبناء مجتمع المعرفة والا تصال.
وفي عالم لا يعتد إلا بالتكتلات القوية، ولا مكان فيه للكيانات الهشة أو المصطنعة، فإن المغرب تحدوه الإرادة والثقة في بناء فضاء اقتصادي عربي مشترك.
ولا سبيل إلى ذلك، إلا باعتماد أربع دعائم أساسية:
وفي طليعتها توفير مناخ عربي مطبوع بالتعاون والتضامن، وتجاوز نزوعات التجزئة، وحل الخلافات المفتعلة، ونبذ السياسات الاقتصادية القطرية المنغلقة على نفسها وعلى محيطها، وكذا الأخذ بالنهج الحتمي لبناء تجمعات جهوية مندمجة.
وإذ نشيد بالتجربة الرائدة لمجلس التعاون الخليجي ; فإننا نأسف لتعثر الاتحاد المغاربي، بفعل عوائق مفتعلة، بلغت حد التمادي في الإغلاق اللامعقول للحدود، من طرف واحد، بين بلدين جارين.
وإن المغرب، إذ يجدد حرصه على فتح الحدود بين شعبين شقيقين، فإنه يترفع عن تبخيس الهدف منها في مجرد منفعة ضيقة أو مصلحة أحادية ; وإنما ينطلق من الوفاء للأخوة وحسن الجوار والالتزام بالاتحاد المغاربي باعتباره لبنة للاندماج العربي المنشود.
إخواني القادة العرب،
بنفس الإرادة، نؤكد ضرورة تقوية الدعامة الثانية، المتمثلة في التفعيل الأكمل للاتحاد الجمركي ولاتفاقية المنطقة العربية للتبادل الحر، في أفق إقامة سوق عربية مشتركة.
ويشكل إيجاد المناخ الملا ئم للا ستثمار، دعامة أساسية أخرى، تقتضي توفير الضمانات القانونية المحفزة له وترسيخ دولة القانون في مجال الأعمال وتكريس التنافسية والشفافية، المتنافية مع اقتصاد الريع، فضلا عن اعتماد الحكامة الجيدة واحترام حرية تنقل الأشخاص وتيسير حركية رؤوس الأموال.
وانطلاقا من هذه الدعائم الثلاث، فإننا نفسح المجال واسعا أمام انخراط فاعلين جدد في أوراش التنمية، التي لم يعد تحقيقها متوقفا على العمل الحكومي، على أهميته، بل إنه يقتضي أيضا إشراك الجماعات المحلية والمجتمع المدني والقطاع الخاص.
وفي هذا الصدد، فإن الرأسمال العربي، ينبغي أن يتحلى بالروح القومية العالية من خلال إعطاء الأولوية، في كل مشاريعه الاستثمارية، للوطن العربي.
وسيظل المغرب ملتزما بكل المبادرات البناءة التي تتوخى تحقيق التكامل الاقتصادي العربي، اقتناعا منا بأن الاندماج التنموي يظل السبيل القويم لإعطاء العروبة أبعادها الملموسة الحديثة، التي يتكامل فيها العمق الثقافي والتضامن السياسي مع الاندماج الاقتصادي والتقدم الاجتماعي.
وإن المملكة المغربية، التي عملت دائما، بكل صدق ووفاء، على الالتحام العضوي بقضايانا العربية والالتزام بنصرتها، لن تتوانى في الانخراط في كل الجهود الهادفة إلى توطيد روح التضامن والتآخي بين أرجاء الوطن العربي.
نسأل الله عز وجل أن يلهمنا الحكمة والرشاد، لنكون في مستوى آمال وتطلعات شعوبنا.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".