نص الخطاب الذي وجهه جلالة الملك إلى الأمة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب

تطوان يوم 20/08/2007

 "الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
شعبي العزيز، يتزامن احتفاؤنا اليوم، بمشاعر الاعتزاز، بذكرى ثورة الملك والشعب الخالدة، وبعيد الشباب المجيد، مع الانطلاقة الرسمية الوشيكة للحملة الانتخابية، لاقتراع سابع شتنبر المقبل.
ففي هذا الموعد، الذي يشكل مرحلة متقدمة في مسارنا الديمقراطي، ستختار بإرادتك الحرة، بين برامج ومرشحي الأحزاب المتنافسة، لعضوية مجلس النواب الجديد.
وكما وعدتك في خطاب العرش، فإنني أتوجه إليك، في موضوع الانتخابات، لا للتأثير أو التدخل فيها، الذي حرمته على نفسي مثلما يمنعه القانون على الجميع ، باعتبار نزاهة الانتخابات هي جوهر الديمقراطية وروحها.
فالالتزام التام بنزاهة الانتخابات وتخليقها، وبحرمة الاقتراع، يبدأ من خديمك الأول، الملك أمير المؤمنين، رمز وحدة الأمة، بكل مكوناتها، وحامي حمى الملة والدين، الحريص على مصالحك العليا، بجعلها تسمو فوق أي اعتبار، مستحضرين تطورنا السياسي، بمكاسبه الكبرى.
وهكذا، أصبحت الانتخابات منتظمة، بيد أن الانشغال بها لا يعني التأثر السلبي بظرفيتها وانتظار تنصيب الحكومة القادمة، وهذا ما يقتضي أن تتحمل كل المؤسسات والفاعلين مسؤولياتهم في عمل مستمر. فالقضايا المصيرية، والأوراش والإصلاحات الهيكلية الكبرى، وضمان الأمن والاستقرا ر، لا تقبل التوقف والانتظار.
وبعون الله، فقد تمكنا جميعا من توفير إطار عصري وفعال، محفز على المشاركة المواطنة، من معالمه البارزة : مدونة انتخابية حديثة، تفسح مجال المشاركة المتكافئة لكل الأحزاب في الاقتراع، قانون جديد لتأهيل الأحزاب وتمويل شفاف لعملها، حياد إداري إيجابي وحازم، مراقبة قضائية مستقلة، حضور فاعل للمجتمع المدني، ولوسائل الإعلام، في التوعية والمتابعة، فضلا عن التمثيل النسوي، الذي نريده أكثر إنصافا للمرأة.
وهذا ما جعل الممارسة السياسية تبلغ مرحلة متقدمة من النضج، حيث تتنافس على كسب ثقة الناخبين أغلبية تدافع عن حصيلة عملها ومشاريعها المستقبلية وتحاسب عليها، وفي مواجهتها، معارضة متعددة، تأخذ بعين الاعتبار المكاسب الوطنية وتقترح برامجها البديلة في إطار انتخابات تنافسية.
وبدورها، فإن الحملة قد عرفت تجديداً ملحوظاً، في شكلها ومضمونها ومراحلها، فهي لم تعد مجرد فرصة موسمية عابرة لرفع شعارات حماسية ومطالب نضالية عامة، أو مطية للتضليل والتدليس، بل أصبحت مفتوحة ومتضمنة لبرامج متعددة يتم التعريف بها بوسائل اتصال حديثة ومضبوطة.
ومهما يكن التقدم السياسي الذي حققناه، فهل يجوز القول : إننا قد بلغنا درجة الكمال الديمقراطي؟ وهل من المعقول النزوع إلى تحجيم الاقتراع باعتباره مجرد حلقة دورية، في مسلسل انتخابي معتاد؟ كلا، إن للانتخابات حرمتها ودورها الحاسم في اختيارك، شعبي العزيز، لمن يدبر الشأن العام ويراقبه، أغلبية ومعارضة. كما أنها تساهم، بإرادتك الحرة، في بلورة أسبقيات الولاية التشريعية الجديدة. لذلك، لا ينبغي تبخيس قيمتها أو التشكيك في جدواها. كما أ نه لا مبرر للمبالغة في تهويلها وكأنها غاية في حد ذاتها أو نهاية مطاف المسار الديمقراطي الذي لا حد لكماله.
وعلى هذا الأساس، أقول لموا طنينا : إن الانتخاب من مقومات المواطنة المسؤولة، ولإعطاء عملية الاقتراع شحنة قوية ودائمة، يتعين دعمها بالمشاركة الديمقراطية، مشاركة موصولة لا تنحصر في يوم الاقتراع، بل تتطلب الانخراط الدائم في أوراش التنمية والمواطنة.
إنكم بالإدلاء بأصواتكم، لا تختارون من يمثلكم للسنوات الخمس المقبلة فقط، وإنما تحددون أيضا مستقبلكم ومستقبل أبنائكم وبلدكم. فعليكم ألا ترهنوا مصيركم ببيع أصواتكم وضمائركم لمن لا ضمير ولا أمانة له، ففي ذلك تنازل منبوذ عن حقكم الدستوري في الانتخاب الحر ، وتفريط غير مقبول في شرف مواطنتكم وكرامتكم.
لذا، يتعين على الجميع التصدي، بروح المواطنة وقوة القانون ، للعابثين بالانتخابات والمتاجرين بالأصوات ولإفسادها بالمال الحرام والغش والتدليس والتزوير. فلا مكان للممارسات المخالفة للقانون، في كل المجالات، مهما يكن مرتكبوها. فمحاربة الرشوة والفساد واستغلال النفوذ وإقطاعيات الريع وتوزيع الغنائم مسؤولية الجميع : سلطات وهيآت، مواطنين وجماعات، وذلكم في نطاق دولة المؤسسات والحكامة الجيدة.
وإننا لندعو مواطنينا، للانخراط في العمل السياسي النبيل، غايتنا المثلى توسيع المشاركة الشعبية في التنمية. فمن لا يمارس السياسة الفاضلة بالمواطنة الملتزمة، فإن السياسة الرذيلة تستغله بالأساليب التضليلية لأغراض مقيتة : انتهازية أو عدمية مرفوضة، متطرفة أو إرهابية محرمة. لذا ينبغي مواصلة التصدي لنزوعاتها ولكل أعداء الديمقراطية، سلاحنا في ذلك، الدولة القوية للحق والمؤسسات، والتنمية الشاملة، والأمن الحازم، وسلطة القضاء المستقل، الحريصين على الالتزام التام للجميع بسيادة القانون.
فالسياسة ليست حكرا على فئة معينة، وإنما هي شأن كل المغاربة في الداخل والخارج. وفي هذا الإطار، ستعرف هذه الانتخابات، مكسبا جديدا، بتعميم حق المشاركة فيها، بأرض الوطن، على كافة أجيال جاليتنا العزيزة المقيمة بالخارج، مؤكدين لهم فائق عنايتنا بصون كرامتهم، وتعزيز مواطنتهم الكاملة. وما هذه المشاركة الانتخابية إلا خطوة أولى في مسار تشاوري متدرج غايته إدماجهم المشروع في مختلف المؤسسات التنفيذية والنيابية والاستشارية الوطنية.
وفي نفس السياق، ستكون الخطوة المقبلة، في المشاركة المؤسسية الفعالة لجاليتنا بالخارج، هي إحداث مجلسها الأعلى ريتما يرفع المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، مقترحاته بشأنه، إلى نظرنا السديد. وذلك لتنصيبه في الأمد القريب.
شعبي العزيز، باعتبار الأحزاب فاعلا أساسيا في كسب رهان أي اقتراع، فإنني أتوجه إليها بالقول : إنه لا ديمقراطية حقة، بدون أحزاب قوية، أحزاب فاعلة متحملة لمسؤوليتها في جعل الانتخابات تنافسا شريفا بين مشاريع مجتمعية ، وليس لخوض صراعات شخصية أو استعمال الديماغوجية. فالتنافس التنموي هو المحك الفعلي للممارسة الديمقراطية السليمة.
لذلك يتعين على الأحزاب، العمل الميداني على توعية وتحفيز الناخبين على المشاركة، ببرامج واضحة، قابلة للتطبيق. وفي نفس السياق، نجدد تعليماتنا لحكومتنا، لمواصلة اعتماد الحياد الملتزم بسيادة القانون في مختلف مراحل العملية الانتخابية، وذلك بالردع القوي والزجر الحازم لكل الخروقات.
كما نؤكد على الدور الحاسم للقضاء في صيانة حرمة الاقتراع ومحاربة الفساد بكل أنواعه والبت في صحة الانتخاب في كل مراحله، بتنسيق بين كافة السلطات العمومية التي أناط بها القانون مسؤولية تنظيم الانتخاب ومراقبة نزاهته.
كما أن على العدالة، ولاسيما قضاء النيابة العامة، التحلي بالمزيد من اليقظة والتعبئة، وإجراء التحريات، بكل موضوعية وتجرد، في كل الشكايات والطعون. أما البت فيها، فيعود لقضاء الحكم، بما يلزم من سرعة ونزاهة وصرامة، وفي استشعار لكون العدل من أمانة أمير المؤمنين، الضامن للاستقلال التام للسلطة القضائية، عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وفي احترام لمبدإ فصل السلط، وعدم الانسياق لأي تأثير على الالتزام الواجب للقاضي، في كل القضايا، بالتقيد بسيادة القانون.
وبفضل ما تعرفه بلادنا من تحديث ديمقراطي، فإن إنجاح الانتخابات المقبلة، يقتضي الانخراط المسؤول لوسائل الإعلام، ولفعاليات المجتمع المدني في توعية المواطنين ومتابعة الانتخابات وملاحظتها إلى جانب مختلف الهيآت المعنية، كل في مجال اختصاصه، وفي طليعتها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان باعتبار حرية الانتخاب من الحقوق الإنسانية الأساسية.
وإننا لنتطلع إلى أن يسمو كافة الفاعلين إلى المستوى الأمثل لإيثار المصلحة العليا للوطن. وفي هذا الصدد، ندعو ،على وجه الخصوص، الأحزاب، التي نكن لها كل التقدير، لاحترام الإرادة الشعبية الحرة وتنزيه الاقتراع عن كل الشبهات والتركيبات المصطنعة والحسابات الضيقة التي لا نرتضيها لمصداقية المشهد السياسي السليم المنشود.
شعبي العزيز، لقد شكلت ثورة الملك والشعب، ملحمة تاريخية، من أجل حرية الوطن والمواطنين.
فبفضل التضحيات الجسام، التي بذلها جيل الوطنية، حررنا ووحدنا تباعا، أجزاء الوطن.
وها نحن اليوم، نواصل النضال ضد أي محاولة للنيل من سيادتنا ووحدتنا الترابية.
كما نقود، بكل ثقة وحزم، مسيرة تجديد هذه الثورة، لبلوغ هدفها الأسمى والأصعب، ألا وهو تحفيز المبادرات الخلاقة، لكل مواطن ومواطنة، وتشجيع استثمارها المنتج ، هدفنا الأسمى توفير أسباب العيش الحر الكريم لكل المغاربة.
وفي ذلكم خير وفاء، لأرواح أبطال ثورة الملك والشعب الخالدة، وفي مقدمتهم جدنا ووالدنا، المنعمان جلالة الملكين محمد الخامس والحسن الثاني أكرم الله مثواهما، ولتضحيات كل الشهداء والمناضلين الأ برار. كما أنه خير سبيل لتكريم مواطنينا وشبابنا، الذي نحرص على تأهيله وتحفيزه على العمل، حاملا مشعل المواطنة، كما حمل أسلافه مشعل الوطنية.
وبنفس روح الغيرة الوطنية الصادقة، والمواطنة المسؤولة، ستجدني، شعبي العزيز، كما عهدتني دوما، ناهضا بأمانة قيادة كل مكونات الأمة، من أجل مواصلة بناء مغرب التقدم في تشبث بهويته الأصيلة.
إنه المغرب التنموي الديمقراطي الذي يجب عليك استحضاره، شعبي العزيز، دوما وعلى مدى الحملة، ولا سيما عندما تخلو مع ضميرك الحي، في معزل التصويت، حيث ستختار لنفسك ولوطنك، بكل حرية ومسؤولية، الأجدر بتقلد أمانة النيابة عنك بما تفرزه صناديق الاقتراع باعتبارها سلطة الاحتكام الديمقراطي، المجسد لحسمك بين برامج وخطابات متعددة، سائلين الله تعالى أن يجعلنا جميعا، من ""الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"". صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".