نص الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك خلال ترؤسه للمجلس العلمي الأعلى

تطوان يوم 27/09/2008

في ما يلي نص الخطاب السامي الذي ألقاه أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس اليوم السبت بمسجد محمد السادس بتطوان خلال ترؤس جلالته للدورة العادية للمجلس العلمي الأعلى:

"الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
 
أصحاب الفضيلة، أعضاء المجلس العلمي الأعلى،حضرات السادة العلماء، والسيدات العالمات.

يطيب لنا أن نرأس دورة المجلس العلمي الأعلى، مجددين بوصفنا أميرا للمؤمنين، العهد الوثيق على حماية الملة ومواصلة إصلاح أمور الدين، بتجديد مؤسساته والعناية بأهله وإدماجه في سياسة القرب، التي هي منهجنا في تدبير شؤون شعبنا الوفي.

هدفنا الأسمى، تعزيز المساهمة الفاعلة لعلمائنا الأفاضل، في المسار الإصلاحي والتحديثي الذي نقوده في سائر المجالات، ولا سيما قيامهم بتعزيز الأمن الروحي للأمة بتحصين عقيدتها السنية السمحة.

وقد حققنا، بعون الله وتوفيقه، مكاسب هامة، في تفعيل الإصلاح الشامل للحقل الديني الذي أطلقناه قبل أربع سنوات خلت، في خطابنا المؤسس لاستراتيجية جديدة متعددة الأبعاد.

ويأتي في المقام الأول، الجانب المؤسسي المركزي، حيث تمت إعادة هيكلة وتأهيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بما مكنها من النهوض بمسؤولياتها النبيلة والجسيمة، على أفضل وجه.

كما تولينا تجديد وإعادة تنظيم المجلس العلمي الأعلى، والمجالس العلمية المحلية، وفق منظور طموح يكفل الارتقاء بالخطاب الديني إلى ما نتوخاه، بحيث يستوعب واقع الحياة المعاصرة ويحصن شبابنا من فقدان المرجعيات واستغلال الدخلاء والمتطرفين.

وفي نفس السياق، أقمنا هيأة مرجعية تختص وحدها بإصدار الفتاوى الشرعية، صيانة لها من تطاول الخارجين عن الإطار المؤسسي الشرعي، لإمارة المؤمنين، الذي نحن مؤتمنون عليه.

وعلى الصعيد التربوي، فقد شمل هذا التوجه الإصلاحي، كافة المؤسسات ذات الصلة بالتعليم العتيق والتربية الإسلامية.

وسيرا على نهجنا في اعتماد اللامركزية وعدم التمركز، قررنا أن يعاد النظر في خريطة المجالس العلمية المحلية.
 
وهكذا سيتم تعميمها ليكون لكل عمالة وإقليم مجلسها العلمي، ليتحقق ما نلح عليه، من ضرورة مراعاة خصوصيات وتقاليد أهل كل منطقة والتجاوب مع تساؤلاتهم الدينية.

وتجسيدا لحرصنا على أن يشمل القرب رعايانا الأوفياء بالخارج، ارتأينا الشروع بإحداث مجلس علمي للجالية المغربية بأوربا، وقد توخينا من هذه المبادرة، الانفتاح على خصوصيات قضاياها الدينية والثقافية والحفاظ على هويتها المغربية، عقيدة وقيماً أصيلة، في مواجهة النزعات الأصولية المتطرفة.

وفي نفس سياق الإصلاح والتحديث، عملنا على إحداث الرابطة المحمدية للعلماء لتحل محل هيأتهم السابقة، متوخين من ذلك تعبئة كل الطاقات العلمية التي تزخر بها بلادنا، وأن تكون هيأة متكاملة ومتفاعلة، مع مكونات الصرح الديني المتجدد، الذي وضعنا قواعده.

بيد أن الإصلاح المؤسسي، لن يكتمل إلا بتفعيل دور المساجد، القلب النابض للمجال الروحي، لذا قررنا اتخاذ تدابير تجسد رعايتنا الموصولة لبيوت الله. باعتبارها ركنا أساسيا في مخططنا الديني التنويري، غايتنا تعزيز دورها كفضاءات للعبادة وذكر الله سبحانه وتعالى وللتوجيه والإرشاد ومحو الأمية.

وهكذا، فقد وجهنا وزيرنا في الأوقاف والشؤون الإسلامية، لإطلاق برنامج شامل لتأطير وتأهيل أئمة المساجد، بواسطة علمائنا الفضلاء، في التزام بثوابت الأمة واختياراتها وانفتاح على قضايا العصر مع الأخذ بفقه التيسير..
وقد ارتأينا تعزيز الضوابط التنظيمية للمساجد، بتدابير ملموسة، لتحفيز بنائها القانوني. لذا، نصدر توجيهاتنا للحكومة، قصد تفعيل أمرنا بإعفاء بناء المساجد، من الضريبة على القيمة المضافة بنسبة خمسين في المائة، تكريسا لما نبتغيه من تقريبها من عامريها من المؤمنين.

ويأتي البعد الاجتماعي، كركن ثالث في مخططنا الإصلاحي. وفي هذا الصدد، قررنا تعزيز مكسب تمكين القيمين الدينيين من التغطية الصحية بإيجاد هيئة مكلفة بأحوالهم الاجتماعية العامة. ومن ثمة كان قرارنا بإحداث مؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للقيمين الدينيين، تجسيدا لعنايتنا الموصولة بأحوالهم. وحرصا منا على توفير الوسائل الكفيلة بتحسين أوضاع هذه الفئة العاملة، في انضباط، ونكران ذات.

معشر العلماء والعالمات،

إننا لمعتزون بما يقوم به علماؤنا الجادون، بكل أمانة والتزام، في مجالات العمل الديني، بيد أننا ننتظر منهم مضاعفة الجهود، خاصة في إبراز الصورة المشرقة للإسلام، في دعوته إلى تكريم الإنسان، فضلا عن الذود عن حرماته، وفي طليعتها قدسية رسوله، جدنا المصطفى عليه الصلاة والسلام وكافة الأنبياء والرسل الذين فرض علينا ديننا الحنيف الإيمان بهم وتوقيرهم وعدم التفريق بينهم.

وفي ذلكم تكريس للاحترام المتبادل بين مختلف الأديان السماوية، والثقافات والحضارات، مستشعرين أن عالم اليوم، يجتاز ظرفية مطبوعة بنزوعات الأنانية والعنف واهتزاز المرجعيات.

وهو ما يجعل جوهر رسالتكم الروحية، العمل الدائم على إشاعة الطمأنينة والسلام والحث على التنافس في العمل البناء ومحاربة التطرف والانغلاق والإرهاب. بإشاعة القيم الإسلامية المثلى، تحصينا لبلادنا من الآفات المقيتة للغلو والتعصب.

وفي هذا الصدد، قررنا تدشين مرحلة جديدة من الإصلاح الديني بإطلاق خطة رائدة، هي "ميثاق العلماء"، باعتبارها برنامجا نموذجيا للتوعية والتنوير، يقوم على حسن أدائكم لأمانة الإرشاد والتفقيه في الدين عن قرب، وهو ما يقتضي من العلماء الانكباب على تأهيل أئمة المساجد، فضلا عن الانتشار في البوادي والمدن، لتوعية عامة الناس وتوجيههم ومحاربة وتفنيد أضاليل التطرف.

ولهذه الغاية، ندعو لتفعيل خطة " ميثاق العلماء" وفق برنامج محدد، يشرف عليه المجلس العلمي الأعلى، بتنسيق مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، داعين الحكومة لإمدادها بكل الوسائل اللازمة لإنجازه. برنامج يقوم على التعبئة الجماعية والخطاب الديني المستنير المناسب لمدارك المخاطبين وواقعهم المعيش.

وإننا لعازمون على المضي قدما، للارتقاء بالشأن الديني للمملكة، إلى ما تتطلعون إليه، وكافة رعايانا الأوفياء، من تأهيل وتجديد، باعتباره في صلب الإصلاحات الوطنية الحيوية التي نقودها، وفي مقدمتها، توفير الأمن الروحي والحفاظ على الهوية الدينية الإسلامية المغربية، المتميزة بلزوم السنة والجماعة والوسطية والاعتدال والانفتاح والدعوة إلى سبيل الله، بالحكمة والموعظة الحسنة وما يرتبط بها من مبادئ الإسلام السمحة.

طموحنا الجماعي أن نجعل من " ميثاق العلماء" شاهدا على التميز المغربي في صحوة دينية متنورة، يقودها العلماء، مصداقا لقوله تعالى: " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى، إنما يتذكر أولوا الألباب، الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق". صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".