جلالة الملك يوجه رسالة سامية إلى المشاركين في ملتقى برلماني ببروكسيل حول حقوق الانسان وحرية العقيدة

بروكسيل يوم 05/08/2004

"الحمد لله،
والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه، وسائر الأنبياء والمرسلين.
حضرات السيدات والسادة
يطيب لنا في مستهل هذه الكلمة، أن نتوجه بخالص الشكر إلى السيد الأمين العام لمعهد الدين والسياسة العمومية، صديق المغرب، السيد جوزيف كرييبوسكي، الذي دعانا لمخاطبتكم في هذا الملتقى الهام، الذي يعتبر مبادرة جديرة بالتثمين والتشجيع، لما تتيحه لنا جميعا من فرص لتبادل الآراء والتجارب، التي راكمتها شعوبنا عبر القرون، والتي تشكل زوايا نظر متنوعة، توفر لنا قدرا كبيرا من إمكانات التكامل، التي تسمو بنا عن أحادية النظر وعن الانغلاق، الذي قد يكون لكل ذي حضارة عن حضارة الآخر، أو تجاه مشاكل من الممكن حلها بيسر، لو نظرنا إليها من زوايا أخرى تتيحها تجارب وحكمة حضارات مغايرة. فلا غرو أن هذا النوع من المبادرات، يعد لبنات مؤسسة لحضارة عالمية يحل فيها التكامل بين البشر محل التنافر، والإيمان بضرورة التعاون محل وهم الاكتفاء الذاتي والغنى عن الآخر.
ولا نريد أن تفوتنا تهنئة القائمين على معهد الدين والسياسة العمومية، على التفاتتهم ونظرتهم الثاقبة إلى ما يمكن أن ينطوي عليه الاستثمار الراشد للقيم والمبادئ والأخلاق، التي تربي عليها الأديان معتنقيها. كما لا نريد أن تفوتنا هذه المناسبة، دون تجديد التنبيه إلى وجوب اتخاذ كافة التدابير الوظيفية والملائمة للحيلولة دون الاستغلال السلبي لهذه القيم لأهداف مدمرة، تماما كما قد تستغل مقومات الطبيعة لتدميرها، بدل ازدهارها واستمرارها".
وإن من مقتضيات تفعيل خصب الأديان وثرائها في عالم اليوم، عدم إغفال العمل على ترقية مدارك الناس العلمية والمعرفية، ومؤهلاتهم الاجتماعية، بالقدر الذي يجعل هوياتهم الثقافية والدينية توافق ولا تتصادم مع غيرها، ويجعل اعتناقهم لمبادئ الأديان وقيمها، ينطلق من الاقتناع الراسخ، بقيم التسامح والمساواة بين البشر، لا من التعصب والانغلاق، أو من أي نوع من أنواع الإكراه المادي أو المعنوي، المباشر أو غير المباشر.
وقد ظل المغرب، الذي يعد منذ أقدم العصور ملتقى للحضارات المتوسطة والشرقية والغربية، بهوياتها الثقافية وأديانها المختلفة، مثالا للتسامح والانفتاح في ما بينها، ولا سيما في ظل دولته العصرية، القائمة اليوم على ترسيخ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإشاعة قيم الحوار والتفاعل بين الحضارات والمعتقدات".
حضرات السيدات والسادة، تجتمعون اليوم في هذا المحفل المبارك في بروكسيل، وهو اختيار له دلالته، للتدارس والتباحث في هذا الموضوع الوازن حول حقوق الإنسان والحرية الدينية، في عالم بدأ يستشعر مخاطر ظلاميات الجهل والتعصب والعنف. وإنها لمسيرة تحتاج إلى تحفيز. ومن أنجع التحفيز وأفعله، أن يتداعى لتدارس هذا الموضوع "الإشكالية ممثلون عن برلمانات العالم، التي تعتبر مكونا مركزيا من مكونات سلطة عالمنا التشريعية، قصد الخروج برؤية يمكن أن تعبر إلى مختلف العقول الجمعية، والوجدانات المشتركة، والتشريعات الموءطرة، بما فيه نفع البشرية جمعاء وصالحها، حالا واستقبالا.
ومن علامات هذه المسيرة الدالة على الاستبصار، أن الأبحاث في موضوع حقوق الإنسان قد بلغت الجيل الثالث، الذي تم فيه تجاوز النظرة إلى حقوق الإنسان باعتباره فردا، إلى النظرة إلى حقوقه باعتباره مجموعات، تعيش في سياقات معينة تقتضي المراعاة، مما يتعين معه موقعة هذه الحقوق بشكل لا يؤدي إلى تضارب بينها أو تناف. وقد أنتجت هذه المقاربة الحديث عن واجبات تمس صلب هذه الحقوق وتحميها.
ولا شك أن حرية التدين اليوم، بما أنها حق من حقوق الإنسان، لا يمكن، في ظل هذه النظرة، فصلها عن واجبات الإنسان، المتعلقة بحماية هذه الحرية لنفسه وللآخرين، بعدم استعمالها فيما يضر نفسه والآخرين، وبالدفاع عنها بفعالية، ولكن أيضا بتسامح وسعة صدر وتحضر، عن طريق المزيد من الترسيخ لثقافة التشريعات الدينامية، المتفاعلة مع احتياجات الإنسان المتطورة، وكذا مزيد من التشييد للمؤسسات، التي تحتضن هذا الترسيخ وتنميه، ومنها مؤسستكم الموقرة هذه.
حضرات السيدات والسادة، وكنموذج على الثراء والخصب اللذين في الأديان بهذا الصدد، فإن الدين الإسلامي يرسخ مفهوم الأسرة البشرية الموحدة، "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" - صورة النساء1 - ، ويرسخ مفهوم وحدة المصدر ووحدة المآل، "إنا لله وإنا إليه راجعون" - سورة البقرة 156 - ،ويرسخ مفهوم المسؤولية المشتركة عن البسيطة، "و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" - سورة الأعراف 56 - . إن الإسلام إذ يرسخ هذه المفاهيم المركزية فإنه قد مهد بها ليرسخ مفهوما أكثر شمولية، وهو مفهوم حاجة البشر المشتركة لبعضهم البعض، عن طريق التعارف المبني أساسا على الانفتاح الحضاري، الذي يقوم على الاعتراف للآخرين بتجربتهم وعملهم لامتلاك ما يمتلكونه من مهارات وحكمة، يتفردون بها جراء استنطاقهم للكون والحياة والأحياء من زاوية نظرهم، وهو قوله تعالى .. "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير" - سورة الحجرات 13 - .
ولكم سعد العالم خلال فترات وضيئة من تاريخه بثمرات هذا الانفتاح الحضاري، القائم على الدفاع المشترك عن حريات التدين، فأفضى ذلكم إلى التعارف والتآلف، والتنافع والتعاون. وقد شهد العالم فعل هذا "الإكسير" إكسير التواضع الحضاري - حقيقة لا خيالا - في كل من القاهرة ودمشق وفاس وقرطبة ومرسية وغرناطة وغيرها من المناطق التي انتبهت إليه ... مما يقيم الدليل على الإمكان، ولا سيما إذا استحضرنا أن عالمنا أصبح في ظل العولمة، مدعوا، بجميع أممه ودوله، إلى التضامن الوثيق، من أجل التغلب على مشاكله المزمنة في محاربة الفقر والتصحر والتلوث البيئي، والإرهاب والتعصب، المهددين للسلام العالمي. ولذلكم نثمن، مرة أخرى، مبادرتكم الرائدة، داعين لها بكل التوفيق، ولعالمنا باستتباب السلام، ولسائر شعوبنا المزيد من التنمية والرخاء وتوثيق الإخاء.
شكرا لكم على حسن إنصاتكم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".