جلالة الملك يوجه رسالة سامية إلى المشاركين في الندوة الدولية حول موضوع "الحضارة الإسلامية في الأندلس وظاهرة التسامح"

الرباط يوم 12/03/2002

  "الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وءاله وصحبه..
     أصحاب الفضيلة الأساتذة..
     حضرات السيدات والسادة..
    في مستهل هذه الرسالة التي نحن مبتهجون بتوجيهها إلى جمعكم الموقر يسعدنا أن نعرب لكم عن كبير تقديرنا للجهود الحميدة التي يبذلها مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات والتي تأتي للبرهنة عليها هذه الندوة الدولية التي تلتئمون في رحابها لتناول موضوع ''الحضارة الإسلامية في الأندلس  وظاهرة التسامح''.
   وهو موضوع يكتسي أهمية خاصة إذ يدعو إلى البحث في مرحلة متميزة ومتفردة من تاريخ أمتنا الحافل وما أنتج فيها من تراث غني خصيب لا يلبث دارسه والواقف على حقائقه والعوامل الفاعلة فيه أن يستخلص الروءية التي ما أحوج الإنسانية إلى استحضارها للنظر من خلالها إلى الواقع الذي يعيشه عالمنا المعاصر.
   إنه واقع مرير تسوده أزمات وتحديات شتى سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتطبعه ظواهر تطرف المرجعيات ورفض  الاختلاف والغلو في الاعتداد بالرأي والموقف مما أفضى إلى مواجهات عنيفة وأحداث أليمة ذهب ويذهب ضحيتها كل يوم عدد من الأبرياء.
   وهي مآس  توءكد مدى التردي الذي آل إليه السلوك الفردي والجماعي في غيبة القيم الإنسانية النبيلة التي حلت مكانها نزعات عدمية عابثة حولت المشهد الدولي إلى ساحة كره وعداء وغابة صراع واقتتال.
   كما توءكد مدى الحاجة الملحة إلى مراجعة تعيد الأمور إلى نصابها بحكمة وتعقل من أجل تخليق الحياة العامة وجعل العلاقات بين الشعوب قائمة على مبادىء الوسطية والاعتدال والتعايش  والتساكن والتواصل والتحاور والمجادلة بالتي هي أحسن على أساس من التسامح الذي هو في ديننا الحنيف مرتكز على تكريم الله عز وجل للإنسان وعلى الإقرار بالاختلاف الذي شاءت إرادته تعالى أن تكون عليه طبيعة البشر والكون والذي حث سبحانه على تجاوز سلبياته والتعامل معه بالتعارف الرامي إلى التعاون من أجل تحقيق المصالح والمنافع المشتركة وتبادل مشاعر المودة والإخاء واعتبار التقوى مقياس  التفاضل.. ''يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
   أصحاب الفضيلة الأساتذة..
   حضرات السيدات والسادة..
   إن الدعوة إلى الرجوع للقيم وإعادة ترسيخها تحتاج إلى عملية تربوية توظف لبلورتها النماذج الحضارية التي عرفها تاريخ الإنسانية عبر العصور ومن خلال محطات كبرى يظهر فيها الدور الذي كان لهذه القيم في صنع التقدم والرقي والازدهار وإشاعة العدل والأمن والاستقرار.
 
   وفي طليعة تلكم النماذج مثال الحضارة الإسلامية في الاندلس حيث تعايشت الأعراق والمعتقدات والثقافات تحت مظلة الإسلام بتسامحه الذي لم يلبث أن انعكس على النفوس  والأفكار فهدأت واطمأنت متحررة في علاقاتها مع ذاتها وغيرها من كل ألوان العقد والاضطرابات وملتزمة بأخلاق سلوكية وجهت التصرفات والمعاملات وحفزت باستمرار على التطوير والتجديد والابتكار وعلى الأخذ والعطاء انطلاقا من هذه الأخلاق بفكر متناسق وذهنية متوازنة.
   وقد انصهرت جميع هذه المظاهر في بوتقة الوحدة التي كان الأندلسيون حريصين عليها بالرغم من إكراهات التاريخ والتي أقاموها وفق منظومة تتسم بمراعاة التنوع والتعدد والحفاظ على التوافق والتكامل وتمزج باتزان واتساق بين الإسلام والتراث الإنساني.
    وهو ما أهلهم لإبداع نمط حضاري متميز بعطائه العلمي والفلسفي والصوفي والأدبي والفني والصناعي وبما كان له من تأثير على مسيرة الحضارة العربية الإسلامية في مختلف الاقطار ولاسيما في المغرب وبقية بلدان الشمال الإفريقي دون إغفال الدور الكبير الذي كان له في النهضة الأوروبية مما تعتبر به الحضارة الأندلسية صلة وصل بين التراث الحضاري القديم وما أنتجته العهود الحديثة والمعاصرة وكذا دون إغفال الإرث الغني الذي خلفه في شبه الجزيرة الايبيرية متمثلا في جوانب كثيرة من الحياة الفكرية والاجتماعية وفي المواقع والآثار القائمة شاهدا على الشأو الذي أدركته الحضارة الأندلسية.
   وإن المغرب الذي كان له إسهام كبير في بناء الأندلس  وتشييد حضارتها وثقافتها منذ الفتح وعلى مدى ثمانية قرون والذي كان أهم ملاذ آوى المهاجرين المسلمين واليهود الذين اضطروا بسبب الاضطهاد إلى الخروج منها بعد الاسترداد ليعتز بأن يكون المحتضن لكثير من المظاهر الحضارية والثقافية الأندلسية المتجلية على الخصوص  في الموسيقى وفنون العمارة والزخرفة والفسيفساء وفي بعض جوانب الحياة الاجتماعية من أنواع الطبخ واللباس. وإن هذه المظاهر وغيرها لتنهض  دليلا على أن المغرب يتصدر ورثة الأندلس  إذ عرف كيف يصون تراثها ويحافظ عليه وينميه بالتداول والتطوير.
   من هنا أيها الأساتذة والسادة تأتي أهمية إنشاء مركز دراسات الأندلس  وحوار الحضارات واختيار الرباط ليكون فيها مقره مع كل الدلالات التي يحملها هذا الاختيار.
   وإننا لننتهز هذه المناسبة لننوه بالمبادرة الرائدة التي كانت لنخبة من الجامعيين السعوديين والمغاربة بمساندة صديقنا صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن فهد حفظه الله لإقامة مركز ينهج في ممارساته وأنشطته العلمية أسلوب الحوار الحضاري بتسامح وتفتح يتجاوزان الذات إلى الآخر مهما يكن معه من اختلاف.
   وقد وجدت هذه المبادرة مرجعيتها الأساسية فيما يجمع المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية من وحدة الروءى والمواقف وتوارد المقاربات من أجل السعي إلى تحقيق سلام دولي قائم على الحق والعدل وملتزم بالقيم السامية التي حثت عليها أديان التوحيد والتي على أصحاب هذه الأديان أن يكثفوا جهودهم لإشاعتها والاقناع بها والتوسل بمنهجيتها في مواجهة قوى الشر والظلم والطغيان والعمل بأمل وتفاوءل على بناء مستقبل أفضل تسود العالم فيه روح الفضائل والمكارم.
   وتلكم مهمة جليلة يقع عبء النهوض  بها على جميع المثقفين ورجال الفكر وخاصة أنتم المنتمين للمركز الذين عليكم أن تجتهدوا في إبراز النموذج الحضاري الإسلامي في الأندلس  كمثال يحتذى وتراث تعتز به الإنسانية جمعاء وذلكم هو الهدف من تنظيم هذه الندوة.
   وفقكم الله وسدد خطاكم والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".