جلالة الملك يوجه رسالة سامية إلى المشاركين في المؤتمر الدولي الرابع والثلاثين للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان

الدار البيضاء يوم 08/01/2001

"الحمد لله وحده و الصلاة والسلام على مولانا رسول الله واله وصحبه.
السيدات والسادة
يسعدنا أن نرحب بكم في المملكة المغربية التي تفضلتم باختيارها مكانا مناسبا لاحتضان مؤتمركم الدولي الرابع والثلاثين الذي نأمل أن يشكل لبنة إضافية تستحضر التحديات التي تواجهها الإنسانية في مطلع هذا القرن الجديد و طموحها للعيش الكريم والحرية والنماء المادي و الروحي في ظل تحولات هائلة يشهدها النظام الدولي على المستويات الاقتصادية و المالية والتكنولوجية والثقافية وغيرها.
و لاشك أن المشاركين في مؤتمركم هذا يستحضرون هذه التحديات وهذه الطموحات بحكم عملكم المتواصل من أجل الرقي بمجتمعاتهم نحو الأفضل وضمان كرامة المواطن وحقوقه لتمكينه من المساهمة الفعالة في البناء. ونعتقد أن هذا المسعى يتطلب تظافر الجهود وتكمال الإرادات الهادفة إلى النهوض بحقوق الإنسان بروح إيجابية توفر الضمانات القانونية والمؤسساتية والعملية الضرورية لذلك كما توفر الشروط الموضوعية اللازمة للتمتع من استقرار وتنمية وعدالة لأن تكامل البعدين هو الكفيل بتجنيبنا مئاسي الاضطرابات والتطرف والتعصب والانغلاق التي نشهد في بقاع متعددة مدى تقويضها لأبسط مقومات الوجود الإنساني.
وما انتماؤكم لحقول ثقافية وفضاءات جغرافية ودينية ومدارس متنوعة إلا حلقة إضافية لهذا الغنى المتواصل ولخصائص التحديات التي تواجهها البشرية. و إننا نؤمن بكون قضايا حقوق الإنسان هي ملك للإنسانية جمعاء لا فضل ولا سبق فيها لأحد لأنها تمخضت عن مسار تاريخي ساهم الفكر البشري بمختلف ثقافاته وحضاراته في بنائه كما أدت مختلف شعوب العالم التواقة للحرية والعدل ثمنا غاليا للوصول إليه عبر الكفاءات والمئاسي التي مثلتها الحروب الكونية والحروب الاستعمارية وموجات العنصرية والتعصب والإرهاب والانتهاكات عبر العالم.
وقد استطاعت هذه المسيرة أن تثمر مكتسبات هامة انتصرت للديمقراطية وحقوق الإنسان وفتحت آفاقا واعدة للأمل والتبصر والإيمان القوي بمستقبل الإنسان. إلا أن تحديات جسيمة لازالت تقف في طريق هذه المسيرة وتعترض بناء أسس صلبة للسلام والتئاخي في عدة بقاع من العالم كما تدل على ذلك المأساة اليومية التي يعيشها الشعب الفلسطيني التواق إلى الحق في الوجود وإقامة دولته المستقلة على أرضه كمدخل لا محيد عنه للسلام في الشرق الأوسط ومعاناة الشعب العراقي من جراء حصار يحصد أرواح أبناء هذا البلد بالآلاف ويهدم مقومات التمتع بأبسط شروط العيش الضرورية للكائن البشري دون أن ننسى التصفيات العرقية التي تشهدها مناطق إفريقيا وأوربا نفسها إضافة إلى موجات العنصرية ومعاداة الأجانب التي تنتعش هنا وهناك وحتى في قلب دول ديمقراطية عريقة.
السيدات والسادة
إن عالمنا في حاجة إلى إقامة أسس جديدة للتعاون والشراكة والتعاضد خدمة للإنسانية جمعاء حتى نتمكن من بناء فضاء يسوده العدل والحرية وترسيخ الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان. فكيف نستطيع ربح هذا الرهان ومئات الملايين من الناس لا تجد لقمة عيشها ولا أبسط الحاجيات الضرورية من صحة وماء وتعليم وشغل وسكن و ما إلى ذلك. وكيف نضمن الحق في التنمية المستديمة في ظل عولمة زاحفة ودول الجنوب ترزح تحت ثقل المديونية وتواجه منافسة غير متكافئة في ظل انفتاح السوق العالمي والثروات التكنولوجية الهائلة في الشمال. وكيف نبني كونية حقوق الانسان دون أن نفقر الشعوب من ذاتيتها الثقافة وارثها الحضاري ومقومات تاريخها الذي انبنى على امتداد قرون.
اننا نؤمن بأن القرن الجديد يدعوننا جميعا الى مواصلة الجهود لتحقيق العدل والنماء والتمتع بحقوق الانسان حتى نجعل الأفراد والشعوب يقررون مصيرهم بأنفسهم ويضطلعون بدورهم الفاعل ومسؤوليتهم في بناء الحاضر والمستقبل بما يقتضيه ذلك من وعي ودراية بكامل أبعاد وتحديات الواقع المحلي والدولي.
منذ تولينا عرش أسلافنا المنعمين أعلنا بكل حزم ووضوح انحيازنا للقضايا العادلة وللديمقراطية وإشراك أبناء شعبنا في معركة التتمية المستديمة والشاملة. وقد أولينا عناية خاصة لقضايا حقوق الانسان تجسدت في العديدمن الاجراءات والخطوات الهادفة الى مصالحة المغاربة مع تاريخهم وتسوية ماشابها من جاوزات وانتهاكات. وكان هدفنا ولا يزال هو توفير الشروط الضروية لتأمين المستقبل عبر جبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا وإعادة التأهيل وارساء الضمانات الكفيلة بالوقاية والحماية من عدم تكرار الماضي. كما أن دعوتنا الى تجاوز الضغينة وإرساء ثقافة التسامح مع الانصاف لمن شأنها أن تفتح افاق المستقبل ومتطلبات بنائه بكامل الاعتزاز والمسؤولية.
وشكل هذا الاختيار حلقة من مشروع متكامل يتوخى توسيع فضاء الحريات وإصلاح التشريعات وتطوير الاليات وتدعيم التربية على حقوق الانسان وبناء علاقات جديدة بين الإدارة والمواطن قوامها المصلحة العامة والثقة التبادلة والمسؤولية في الأداء والتضامن مع الضعفاء والمهمشين وإشراك كافة مكونات المجتمع المدني في هذه المعركة المتواصلة.
ونحمد الله أن المغاربة أبانوا عن قدرات خلاقة ومبادرات مبتكرة في عطاءاتهم وبذلهم للنهوض بمجتمعهم. وإن ايماننا بدور جميع الفاعلين يهدف أيضا الى تأسيس ثقافة جديدة تعزز المشاركة وتربي على المسؤولية وترسخ المباردة الحرة وتقوي قيم الديمقراطية.
ولنا اليقين أن العناية بالعمل التربوي والسلوكي لمن سأنها أن تسهم في نشر ثقافة حقوق الانسان بما تحفل به من تضامن وتسامح وحرية ومسؤولية لأن التشريعات والأليات والسياسات تحتاج بالضرورة الى مواطن ملم بأبعادها ومتشبع بقيمها ومبلور لروحها على مستوى السلوكات والمعاملات.
وان إيماننا بدور المجتمع المدني وبدوركم كفاعلين في هذا المجال هو الذي جعل مملكتنا تساهم بدور فعال في احتضان وتبني إحداث اليات دولية لحماية المدافعين عن حقوق الانسان. وإذ نقوم بذلك فاننا ندري التحديات التي تواجه العمل التطوعي خاصة في حقول تتنازعها الصراعات والحساسيات. ونأمل أن يشكل لقائكم هذا محطة تغني مسيرة النهوض بحقوق الانسان في العالم وتقف الى جانب القضايا العادلة وتعزز متطلبات بناء عالم يسوده السلم والاخاء والتعاون البناء وتحترم فيه كرامة الانسان وحقوق.
وفقكم الله لما فيه خير البشرية جمعاء.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".