جلالة الملك يوجه خطابا ساميا الى الأمة بمناسبة ثورة الملك والشعب

تطوان يوم 20/08/2004

" الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وءاله وصحبه
شعبي العزيز،
لقد حددنا في خطاب العرش الأخير التوجهات الاستراتيجية الكبرى، لبناء مغرب موحد، ديمقراطي ومتضامن منفتح ومتقدم.
واننا لنعتبر تخليدنا اليوم لذكرى ثورة الملك والشعب وعيد الشباب خير مناسبة لاستلهام ما يرمزان اليه من اقدام وتضحية، لبلوغ هذا الهدف الاسمى الذي لن يحققه الا المغاربة بسواعدهم وعقولهم، وصدق ايمانهم.
ولرفع هذا التحدي المصيري، فاننا حريصون على اعطاء ملحمة ثورة الملك والشعب مضمونا متجددا تنصهر فيه الوطنية الأصيلة بالمواطنة العصرية.
فهذه الملحمة التاريخية ليست مجرد حدث عابر، وانما هي مسيرة متواصلة، لرفع التحديات، على تعاقب الاجيال والازمان. سلاحنا الاساسي في تحقيق ذلك، التحلي بقيم الوطنية، المرتكزة دوما على التضحية، من اجل سيادة المغرب وعزته، واعتبار التشبث بمقدساته وثوابته، وصيانة حقوق مواطنيه، وأمنه واستقراره، والدفاع عن وحدته الوطنية والترابية، ومواجهة أدنى مس بها، جوهر حب الاوطان، الذي جعله جدنا المصطفى، عليه الصلاة والسلام ، من الايمان .
بيد أن الوطنية التي تمثلت بالاساس، بالنسبة لجيل التحرير، في مقاومة الاستعمار القديم، تقوم بالنسبة لأجيالنا المعاصرة، على التعبئة الشاملة وتحرير الطاقات، لمكافحة المعضلات الصعبة للامية والفقر ،وبطالة الشباب، واتساع التفاوتات الاجتماعية والمجالية، وكسب رهانات التحديث الديمقراطي،والرفع من مستوى التنمية البشرية والانتاج الاقتصادي والنهوض بالاجتهاد الفكرى والابداع الفني . إن المواطنة التي نريدها لاينبغي أن تختزل في مجرد التوفر الشكلي على بطاقة تعريف او جواز سفر، وانما يجب ان تجسد في الغيرة على الوطن، والاعتزاز بالانتماء اليه، والمشاركة الفاعلة في مختلف أوراش التنمية، التي فتحناها وطنية كانت أو جهوية أو محلية وتوسيع اشعاعه العالمي.
فأن تكون مغربيا معناه الجمع بين التشبع بثوابت الهوية المغربية الموحدة،الغنية بتعدد روافدها، وتقاسم القيم والتطلعات المشتركة للأمة، وبين التفاعل الايجابي مع مستجدات حضارة العصر، والانخراط في مجتمع المعرفة والاتصال . ولذلك جعلنا من تأهيل مواردنا البشرية، التي هي عماد الاقتصاد الجديد، رأسمالنا الحقيقي، وهدفنا الاستراتيجي، لاكتساب المعرفة العلمية الدقيقة، والتكنولوجيا المتطورة، اللتين هما السبيل القويم للخروج من التخلف، ومواكبة التقدم.
وبدون ذلك، فإن أجيالنا الصاعدة ستواجه أمية جديدة، هي أشد خطرا من الأمية التقليدية، التي لا سبيل لمواجهتها إلا بالمعرفة النافعة، والعمل الجاد والتنظيم المضبوط.
بيد أن هذا التأهيل، الذي نعتمده لتربية وتكوين أجيالنا، لا ينبغي أن يقتصر على بعديه العلمي والتكنولوجي فحسب، وإنما يجب أن يشمل التربية والثقافة الفكرية والدينية المنفتحة، تحصينا للشخصية المغربية من الاستلاب ، والتنكر للقيم، التي جعلت المغاربة يتغلبون على الشدائد، منتصرين في كل منعطفات التاريخ.
فهويتنا تقوم على ثوابت راسخة، لا قوام لشخصيتنا المغربية بدونها، من عقيدة إسلامية سمحة، وملكية دستورية.
وفي عصر يسوده اهتزاز المرجعيات العقائدية، وتصاعد الأصوليات الهوجاء، فإننا حريصون على تحصين ووقاية مجتمعنا، من مخاطر التعصب والتزمت والانحلال، المحدقة بعالمنا اليوم.
لذا يتعين على كل الموءسسات والهيئات والجمعيات، الموءطرة للمواطن والمجتمع، العمل على ترسيخ منظومة القيم الأخلاقية الرفيعة، التي تشكل جوهر حضارتنا المغربية العريقة، قبل أن تكون مرجعية كونية.
ولن يتأتى لنا ذلك إلا بتنشئة شبابنا على المواطنة الإيجابية، المتمثلة في تحمل الأمانة بدل التملص من المسوءولية. والالتزام باحترام القانون، وبترابط الحقوق بالواجبات، وعدم الخلط بين الحرية والتسيب. والتحلي بالإقدام والتضامن، بدل التواكل والانتهازية والأنانية، وتشجيع المواهب المبدعة والمنتجة، عوض إشاعة الإحباط والإعاقة والتيئيس. فضلا عن التشبع بالوسطية والتسامح والعدل، وحسن الجوار والسلام، ونبذ التطرف والكراهية والتفرقة والإرهاب والعدوان.
وإننا لنعرب عن إشادتنا بما يرمز إليه بروز مظهر جديد للمواطنة، الذي يتحلى به شبابنا، الذين تحفزهم الثقة في حاضر ومستقبل المغرب، على خوض ميادين العمل والإبداع ، والاستثمار المنتج، والإقدام على المبادرات الخلاقة جاعلين مما قد يعترض طريقهم من مصاعب الحياة، مصدر قوة للمزيد من العطاء. فهذه العزائم الشابة تجسد المواطنة الإيجابية، التي نعول عليها، في شجاعة ونكران ذات، في مجال الابتكار والاجتهاد، وخلق الثروات، والتعبئة الشاملة لتحقيق التنمية القوية، الموفرة لفرص الشغل والعيش الكريم. كما ننوه بالوطنية الصادقة، المتجلية في التجاوب والتضامن، والشعور الوطني الجماعي، بالانتماء إلى مغرب موحد، في السراء والضراء، من لدن جميع المغاربة حيثما كانوا، داخل الوطن و خارجه، معتزين بمغربيتهم ورايتهم الوطنية الخفاقة.
وإننا لحريصون على أن يتعزز هذا الشعور الوطني المتجدد، بترسيخ الوحدة الوطنية، لغة وثقافة، وتحديثهما، مع النهوض بكافة الروافد اللغوية الأخرى وثقافاتها، دون أن نغفل ضرورة إتقان اللغات العالمية، التي هي جسر للتواصل والتفاعل والانخراط في عصرنا، والانفتاح على مختلف الثقافات والحضارات.
وتلكم هي القيم التي يجب أن يتشبع بها مغاربة اليوم، ليظلوا أوفياء لرواد الوطنية الحقة، في أسمى معانيها، وفي طليعتهم جدنا ووالدنا المنعمان، جلالة الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، خلد الله في الصالحات ذكراهما. فلنا فيهما خير قدوة، لحمل مشعل الثورة الدائمة للملك والشعب.
وستجد، شعبي العزيز، خديمك الأول، في طليعة العاملين على تحقيق مضمونها الجديد. وبذلك نمزج بين الوطنية الصادقة والمواطنة الإيجابية، لبناء مغرب قائم على تلازم دمقرطة الدولة والمجتمع. مغرب يوفر المواطنة الكريمة لأبنائه، بقدر ما يكنون له من وطنية مخلصة، إذ لا مواطنة بدون وطنية ولا وطنية بدون مواطنة.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته" .