"الحمد لله وحده،
والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه،
حضرات السيدات والسادة،
يطيب لنا أن نتوجه إلى المشاركين في هذا اللقاء الوطني، الذي يلتئم من أجل تدارس مجال التعمير وشؤونه، متوخيا وضع الأسس المتينة لمدونة حديثة له، محكمة المبادئ، عتيدة القواعد، مضبوطة الآليات، وواضحة المقاصد. كما نثمن هذه الوقفة التأملية لإصلاح التعمير، التي تندرج في سياق تعزيز الأوراش الإصلاحية الكبرى، التي تعرفها بلادنا في شتى المجالات، وفي قطاع الإسكان والتعمير، الذي جعلناه في مقدمة السياسات العمومية، ومحورا استراتيجيا للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أطلقناها، ونسهر على تفعيلها ميدانيا، وركنا أساسيا للمفهوم الجديد للسلطة، القائم على القرب، وتحفيز التنمية، وسيادة القانون، ودعامة قوية لتوفير السكن الكريم، الذي يعد من مقومات المواطنة الكاملة.
لقد سبق لجلالتنا في أكثر من مناسبة، توجيه نظر كافة المسؤولين والفاعلين، على المستوى الوطني والمحلي للاختلالات المتجلية في النسيج العمراني، والتي شاهدناها عن كثب، من خلال الجولات التفقدية، التي قمنا بها لمختلف جهات المملكة، وأصدرنا بشأنها تعليماتنا للحكومة، وللمؤتمنين على تدبير الشأن المحلي، من منتخبين وسلطات، من أجل وضع حد لمختلف التجاوزات والمخالفات، وعدم التساهل أو التهاون في زجرها والتي أضحى استفحالها لا يقتصر على تهديد أمن وسلامة المواطنين فحسب، بل يخل بالبعد العمراني المتناسق، الذي يعد أحد المعالم الأساسية لمشروعنا المجتمعي، الذي نسعى إلى إنجازه، مجددين دعوتنا للسلطات العمومية للتصدي لمختلف الخروقات، والوقاية منها بالتطبيق الحازم للقانون.
وبموازاة ذلك، سهرنا على إطلاق أوراش سكنية ضخمة، تعزز العرض السكني الملائم للفئات ذات الدخل المحدود، وتعالج أوضاع السكن غير اللائق، من خلال عمليات إعادة إسكان الأسر التي تقطن أحياء الصفيح، وكذا إعادة هيكلة واندماج الأحياء الهامشية.
وتعزيزا للمجهودات التي تقوم بها حكومتنا، فقد أضحى من اللازم الانكباب على مراجعة وتحديث منظومة التعمير الجاري بها العمل في بلادنا، والتي وإن عرفت بعض الإصلاحات في العقدين الماضيين، فإنها ظلت محدودة. ولا زالت بعض تشريعاتها ترجع إلى بداية القرن الماضي. غايتنا المثلى جعلها تواكب الحركة العمرانية، التي تعرفها المملكة، وتساير وتيرة تنمية العديد من القطاعات الحيوية، ذات الأبعاد الاستثمارية والصناعية، والسياحية والسكنية.
لقد غدت المنظومة الحالية للتعمير من جراء تقادمها، وشتات وتنافر بعض ضوابطها، وتغليب الطابع التنظيمي والمسطري المنغلق، عاملا مساهما في الانتشار العشوائي لأنشطة غير منظمة، تعد مطية لاقتصاد الريع، والتملص الضريبي، وعائقا يتنافى مع التوجه نحو تحفيز مبادرات الاستثمار المدرة لفرص الشغل. بل أصبح التعامل معها في الكثير من الأحيان، يمر إما عبر الاستثناء، الذي أصبح بمثابة القاعدة، أو تواطؤات تدليسية، وإما بواسطة تصرفات فوضوية، تشجع المضاربة العقارية. وهذا في الوقت الذي أضحى من الضروي أن تساهم منظومة التعمير، بالفعالية والنجاعة اللازمتين، في تأهيل مدننا وقرانا، وجعلها فضاء رحبا قادرا على استقطاب الاستثمار، في سياق الانفتاح الذي تعرفه المملكة، وانخراطها في مناخ العولمة، وما يفرضه ذلك من تقوية لقدراتنا التنافسية، والتوجه نحو إدماج التقنيات الحديثة في البناء، الكفيلة بضمان الوتيرة المطلوبة، لسد الحاجيات المتجددة مع الحفاظ على الجودة والأثمنة المناسبة، فضلا عن صيانة تراثنا المعماري الأصيل الذي يعد جزءا من هويتنا المغربية، سواء في بعده الوطني، أو خصوصياته الجهوية، التي ينبغي الحفاظ على تنوع مميزاتها المحلية.
ولا يغيب عن بالكم، في هذا الصدد، الأهمية التي نوليها لموروثنا الحضاري، الذي يساهم بدور كبير في الإشعاع الثقافي والسياحي لبلادنا، بعد أن أصبحت حواضرنا التاريخية، والمواقع الطبيعية والأثرية المغربية، في العديد منها، ضمن لائحة التراث الإنساني، من المدن العتيقة والقصور والقصبات. وهو ما يحتم إبراز طابع هذا الموروث الحضاري، والعمل على صيانته، عند إعداد مدونة التعمير، وإعادة الاعتبار لمقوماتها الهندسية، ولمواد البناء المحلية المستعملة فيه، ولأنماط السكن المتجاوبة مع المعطيات المناخية والقروية، والتقاليد الاجتماعية المرعية.
لهذه الاعتبارات ولغيرها، فإننا نؤكد مدى العناية البالغة التي نوليها للتعجيل بإعداد وإقرار مدونة جديدة للتعمير، حتى تكون مستجيبة لتطلعاتنا من أجل إصلاح الأوضاع القائمة، وتوطيد الشفافية والتنافسية، ومبادئ الحكامة الجيدة، لتأهيل هذا المجال، والحفاظ على الهوية المغربية. مدونة تقوم على تبسيط المساطر وضبطها، والإنصاف العقاري، وتستهدف إنعاش وجلب الاستثمار، وخدمة التنمية البشرية، ومكافحة الفقر، وسد العجز الاجتماعي، والحفاظ على جمالية المجالين الحضري والقروي، وتلبية حاجيات المواطنين إلى المأوى اللائق والعيش الكريم، منسجمة في نفس الوقت، مع الخيارات التي أقرها المخطط الوطني لإعداد التراب، وما أفرزه من توجهات تتلاءم وتنوع مجالاتنا الترابية، مع الاستفادة القصوى من معطيات ونتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى.
وهو ما يتطلب منكم التفكير في وضع آليات مضبوطة، لتنفيذ مخططات وثائق التعمير، ووضع برنامج زمني للاستثمارات العمومية المصاحبة، حتى لا تبقى المخططات مجرد تصورات نظرية عديمة المفعول، أو جامدة غير قابلة للتأقلم مع التطور المتسارع، وحتى تتعزز وسائل التدبير الحضري، للارتقاء به وفق منظور وحدة المدينة، التي جعلنا منها خيارا سياسيا ومؤسساتيا أساسيا في منظومة تأهيل المدينة.
وفي هذا الصدد، فإنه يتعين على الجماعات المحلية أن تضطلع بمسؤولياتها الدقيقة، في النهضة العمرانية المنشودة، بإبداء الرأي والإشراك في إعداد ومراقبة مخططات التهيئة والتعمير، في نطاق اختصاصها، وفي انسجام مع المشاريع والاستثمارات الهيكلية الكبرى، مؤكدين ضرورة تقيد المنتخبين والسلطات العمومية، وكافة المواطنين والفاعلين في هذا القطاع، بالضوابط والشروط المسطرة في التحملات المتعلقة بالتصاميم.
وبالنظر للتطور الحضري الذي يعرفه المغرب، فإننا ندعوكم إلى الأخذ بعين الاعتبار أن التمييز بين المجالس الحضرية والقروية، المعمول به إداريا، قد لا يكون ملائما كل الملاءمة لمجال التعمير، الذي ينبغي أن يرتكز على معايير جديدة، وفي مقدمتها الكثافة السكانية.
حضرات السيدات والسادة،
إن النهضة العمرانية، التي ننشدها لبلادنا، لا يمكن أن تبقى رهينة صدور مدونة جامعة مانعة للتعمير، على أهميتها، فإن هناك قضايا ملحة يتعين الانكباب، بموازاة ذلك، على إيجاد حلول مستعجلة لها. وفي هذا السياق، ينبغي الإسراع باتخاذ جملة من التدابير الملحة أهمها وضع حد للبناء غير القانوني، واعتماد مبدأ التسوية العمرانية للأحياء العشوائية القابلة لإعادة الهيكلة، فضلا عن مواصلة الجهود الرامية إلى تعميم الوكالات الحضرية بكافة أقاليم المملكة، وتمكينها من الوسائل المادية اللازمة، والموارد البشرية الكفأة، لتأهيلها للنهوض بمهامها كأجهزة عمومية متخصصة، لتساهم بفعالية في وضع وبلورة المشروع المجالي، الذي يهم نفوذها الترابي، وتساعد بنجاعة في تنمية الاستثمار، وتكون الشريك المتميز للجماعات المحلية، الحضرية منها والقروية.
واعتبارا للطابع الأفقي لقطاع التعمير، والمسؤوليات المشتركة بين العديد من الفعاليات، على المستوى الوطني والجهوي والمحلي، فإن حسن إعداد مدونته الجديدة، ينبغي أن يعتمد المقاربة الديموقراطية، القائمة على التشاور الواسع، مع كل القطاعات والهيئات المعنية، وينهج إشراك المنعشين العقاريين، والفاعلين المحليين، ولا سيما منهم القطاع الخاص المعني بالسكن الاجتماعي، والحوار البناء معهم، والإصغاء لهم عن قرب، في حرص على انتظامه على المستوى الجهوي، بتنشيط من الوكالات الحضرية، تجسيدا لما أكدنا عليه في خطاب العرش لهذه السنة، من التفعيل الأمثل لدورها.
ولنا كامل اليقين أن الأطر والفعاليات المشاركة في هذا الملتقى، الذي أبينا إلا أن نسبغ عليه سامي رعايتنا، اعتبارا لطابعه الحيوي، لها من الخبرة الكافية، وروح المسؤولية، واستشعار جسامة الأمانة الملقاة على عاتقها، ما يمكنها من النجاح في تناول هذه القضايا بالدراسة الدقيقة المستفيضة، لأجل بلورة ما سيكون بمثابة حجر الأساس، لإيجاد مدونة للتعمير، متناسقة المقاصد، محصنة بفضيلة التوافق الإيجابي حولها، مبنية على رؤية حصيفة وفق استراتيجية شمولية متعددة الأبعاد، متكاملة الجوانب، في مقاربتها العملية للإصلاح الشاق والطويل لهذا القطاع الهام. وهو ما يجعلها جديرة بأن يعطي تفعيلها على أرض الواقع، وفي أقرب الآجال، دفعة جديدة وشحنة قوية، لحرصنا الأكيد على أن يظل قطاع الإسكان والتعمير الورش الكبير، والمنجم الذي لا ينضب للتشغيل.
والله تعالى نسأل أن يكلل أشغالكم بالتوفيق، فيما أنتم مقبلون عليه من إيجاد هندسة قانونية جديدة، كفيلة بتبويء هذا القطاع الحيوي مكانة القاطرة السريعة، لما نتوخاه لبلادنا من تنمية اقتصادية، وتماسك اجتماعي، وما نبتغيه لمواطنينا من عيش كريم، يعد السكن اللائق، وجمالية وتناسق النسيج العمراني إحدى دعائمه الراسخة، ومظاهره الحضارية الجذابة.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ".