وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس رسالة إلى المشاركين في الاجتماع التاسع لشبكة حقوق الإنسان التابعة للأكاديميات والجمعيات العلمية الذي افتتح صباح اليوم الخميس بأكاديمية المملكة بالرباط حول موضوع " دور الأكاديميات والجمعيات العلمية في إنعاش حقوق الإنسان".
وفي ما يلي النص الكامل للرسالة الملكية السامية التي تلاها السيد عبد الواحد الراضي وزير العدل.
"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
حضرات السيدات والسادة،
إنه لمن دواعي اعتزازنا أن تحتضن المملكة المغربية اجتماع شبكة حقوق الإنسان، التابع للأكاديميات والجمعيات العلمية، الذي ينعقد كل سنتين.
ونود أن نشيد باختيار الشبكة عقد اجتماعاتها على أرض إفريقية عربية إسلامية، لأول مرة في تاريخها. كما يطيب لنا أن نرحب بالمشاركين المرموقين، الذين قدموا إلى هذا الملتقى الهام من مختلف بلدان العالم.
ومما يزيدنا اعتزازا وابتهاجا، ونحن نستقبلكم في أحضان أكاديمية المملكة المغربية، التي نحيطها بسامي رعايتنا، أنكم في طليعة المدافعين عن حقوق الإنسان، ونشر العرفان عبر العالم. وهي القيم النبيلة التي نقاسمكم الإيمان بها، والدفاع عنها، على شتى المستويات.
وإننا لنستحضر، في هذه المناسبة، أن جدنا المنعم، جلالة المغفور له، الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، لم تمر على عودته من المنفى إلى المغرب، إلا فترة وجيزة، حتى بادر جلالته إلى توجيه خطاب إلى الأمة، يعلن فيه تشبثه بالمبادئ المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وبعد ذلك قام بإصدار قانون رائد للحريات العامة، شكل في ذلك الحين، ثورة قانونية في المحيط الجهوي والدولي لبلادنا. وقد توجت دسترة هذا الالتزام بتأكيد دستور المملكة لسنة 1992 صراحة في ديباجة دستوره، تشبث المغرب بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها دوليا.
كما عمل المغرب باستمرار، على حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، وتمتين دعائم دولة الحق والقانون. وفي هذا الصدد، فإن الأوراش الكبرى التي أطلقناها، تشمل حماية الحريات الفردية والجماعية، وصون كرامة وحقوق مواطنينا، ولاسيما منهم النساء والأطفال والفئات ذات الاحتياجات الخاصة. وقد تجسد هذا الاهتمام أيضا، من خلال اعتماد المغرب لمدونة متقدمة للأسرة، تقوم على تكريس المساواة بين المرأة والرجل، ومراعاة المصلحة الفضلى للطفل.
وفي نفس السياق، نود التذكير بالتجربة الخلاقة، التي أطلقها والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، قدس الله روحه. وهي التجربة التي حرصنا، بكل عزم، على توسيع نطاقها، والمتمثلة في اعتماد آليات العدالة الانتقالية لتسوية ملف الانتهاكات الماضية لحقوق الإنسان.
وقد مكنت هذه التجربة الرائدة من جبر الضرر الفردي والجماعي، وإيجاد مناخ ملائم لتعزيز مكاسب بلادنا، وتوسيع مجال حماية حقوق الإنسان. كما تم العمل، بروح الإنصاف والمصالحة الوطنية، على تفعيل هذه التجربة، التي لقيت تنويها واسعا من لدن الهيئات والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان.
وبالموازاة مع جهودنا الهادفة إلى تعزيز الحقوق المدنية والسياسية، وفي إطار احترام حقوق الإنسان في شموليتها، حرصنا على النهوض بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفي نفس مسار العدالة الانتقالية، أطلقنا ورشا كبيراً لمحاربة التهميش والإقصاء والفقر، من خلال برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي تهدف إلى تمكين المواطنين من الاستفادة من الخدمات الصحية والتعليمية، وتوفير السكن اللائق، وفرص الشغل، وكذا مختلف البنيات التحتية الضرورية.
كما عملنا على النهوض بمقومات الهوية المغربية الموحدة، الغنية بتعدد وتنوع روافدها الأصيلة. وإننا لواثقون بأن إشاعة هذه الحقوق والنهوض بها، ثقافة وممارسة، وإدراجها في صلب السياسات العمومية، تعد خير ضمان لحماية حقوق الإنسان ببلادنا.
ونود في هذا المقام، التأكيد على تشبثنا الراسخ بحقوق الإنسان بكل أبعادها، مستحضرين الإصلاحات العميقة والأوراش الكبرى، التي أطلقناها في مختلف المجالات، باعتماد مقاربة خلاقة، سواء لتحقيق الإنصاف والمصالحة، أو في مجال التنمية البشرية.
حضرات السيدات والسادة،
يسعدنا، أن نستضيف اليوم، ثلة من العلماء الأفذاذ، سيرا على هدي أسلافنا المنعمين، الذين كانوا دائما حريصين على رعاية العلماء، وتكريمهم. وما عملنا بهذا النهج القويم، في توقير رجالات العلم ونسائه، إلا برهان ساطع على التزامنا بالتعاليم الإسلامية السمحة، التي تعلي من شأن العلماء، وتحث على طلب العلم، مصداقا لقول جدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، في الحديث الشريف "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة". وقد رفع نبينا الكريم العلماء إلى أعلى المراتب بين بني البشر عندما جعلهم ورثة للأنبياء.
لقد ظل العالم العربي الإسلامي يولي العلماء مكانة خاصة. وقد كان لهذه الرعاية بالغ الأثر على أمتنا، مما تجلى في نبوغ عدد من الفلاسفة والعلماء، الذين ساهموا بنصيب وافر في إثراء مسيرة التقدم العلمي والحضاري للإنسانية كابن رشد وابن سينا وابن خلدون.
كما أن المغرب، الذي يقدر حق القدر، المكانة الرفيعة التي تحتلونها على المستوى العالمي، كان على امتداد تاريخه الحافل، محجا ومستقرا للعلماء والنوابغ.
كما كان موئلا لكبار علماء المشرق والأندلس، الذين وفدوا على جامعة القرويين بفاس، باعتبارها من أقدم جامعات العالم في العصر الوسيط.
ولعل خير دليل على العناية والتقدير اللذين نحيط بهما العلماء، هو السنة الحميدة التي أرساها والدنا المنعم، ونحرص على استمرارها، بترؤسنا خلال شهر رمضان الأبرك، للدروس الحسنية الدينية، التي ندعو إليها كل سنة، ثلة من علماء الدين والعلماء المتخصصين، قادمين من جميع القارات، لبحث وتدارس عدد من القضايا، التي لا ترتبط بالشأن الديني فحسب، بل تتطرق لمختلف المواضيع الاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
كما يتجسد اهتمام بلدنا بالعلم والعلماء، وتكريم الذين نذروا أنفسهم وحياتهم لنشر المعرفة الإنسانية، في رعاية والدنا المنعم، خلد الله في الصالحات ذكره، للعلماء المغاربة والأجانب على حد سواء، وذلك من خلال إنشاء أكاديمية المملكة المغربية، التي تضم في عضويتها عددا متساويا من الأكاديميين المغاربة والأجانب المرموقين.
وإننا لمعتزون بالسير قدما على درب تكريس هذه السنة، بما نحيط به هذه المعلمة العلمية الرفيعة من سابغ رعايتنا.
حضرات السيدات والسادة،
إن تقدير واحترام المجتمع للعلماء، والوضع الاعتباري والسلطة المعنوية التي يحظون بها، يستوجب منهم العمل على التوفيق والجمع بين الأخذ بناصية العلم، وامتلاك فضيلة الحكمة.
وإننا لنسجل، بكل تقدير واعتزاز، أن شبكتكم قد جعلت من هذا المبدأ مدخلا أساسيا لأي ممارسة جيدة للبحث العلمي والتكنولوجي ولكافة تطبيقاته. ذلك أن أي نشاط علمي، ينبغي أن يستهدف في المقام الأول، العمل المتواصل على تحقيق المزيد من الرفاهية والازدهار للبشرية جمعاء. وهو ما يكسب العلم رفعته ومكانته، ويبوئ العلماء المقام المتميز اللائق بهم.
أما إذا وظفت العلوم وسخرت التكنولوجيا لتحقيق الربح المادي، أو لخدمة إيديولوجيات معينة، دون الاكتراث بالعواقب الوخيمة التي قد تترتب، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن ذلك، سواء على الصعيد الأخلاقي أو الاجتماعي أو البيئي، فإنها لن تكون جديرة بما يليق بمجتمع متحضر، بل وستشكل خيبة أمل بالنسبة للبشرية، ولما تعلقه عليها من آمال عريضة.
وقد ظل المغرب، المتشبع بقيم الوسطية والاعتدال، يتبنى على الدوام، مبدأ الاحتياط، ويندد بأي توظيف مغرض للبحث العلمي والتكنولوجي وتطبيقاته، لتحقيق غايات مبطنة، يراد منها المس بالكرامة الإنسانية، والحيلولة دون تحقيق الرفاهية لبني البشر، وخلخلة التوازن الذي يضمن استقرار بيئتهم الاجتماعية والطبيعية، ومحيطهم الثقافي.
وفي هذا الصدد، فإننا نعرب عن عميق انشغالنا بالتداعيات الأخلاقية والقانونية غير المسبوقة، التي قد تنتج عن عدم خضوع بعض الاستعمالات الجينية للمراقبة.
ومن هذا المنطلق، فإننا نهيب بكم إلى توخي أقصى درجات الحيطة في هذا المجال، ولاسيما من خلال العمل على بلورة مبادئ كونية للأخلاقيات الإحيائية، والسهر على التقيد بها وتحيينها وملاءمتها باستمرار، مع التطورات المتسارعة التي تعرفها مختلف ميادين العلم والتكنولوجيا.
كما نشيد بتضامنكم مع نظرائكم من العلماء، الذين قد تنتهك حقوقهم الإنسانية، أو تكون مهددة وعرضة للمس بها.
وإننا لواثقون بأنكم، لما تتحلون به من روح المسؤولية والالتزام، ستعملون على التصدي للانزلاقات الناتجة عن أي توظيف غير أخلاقي للعلوم والتكنولوجيا، والتنديد بأي فعل يتنافى مع القيم الإنسانية المستمدة من المنظومة الأخلاقية ومبادئ حقوق الإنسان.
وإن شبكتكم الموقرة مدعوة للعمل على تعزيز قيم التضامن والتعاون بين الأكاديميين، ونصرة المثل العليا للسلم والتقدم والتسامح والعيش الكريم، التي تسعى الإنسانية إلى تجسيدها.
وفي الختام، نجدد لكم أحر عبارات الترحيب على أرض المغرب، معربين لكم عن أجمل متمنياتنا بالمقام الطيب بين ظهرانينا، وأصدق دعواتنا بالتوفيق في أشغالكم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".