نص الرسالة السامية التي وجهها جلالة الملك إلى مؤتمر الجمعية الدولية للعلوم الإقتصادية المنعقد بمراكش

مراكش يوم 29/08/2005

"الحـمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
حضـرات السيـدات والسـادة،
يطيـب لنـا أن نـرحـب بكــم ضيـوفـا كـراما بالـمـملـكة الـمغـربيـة، منـوهيـن بـاختيـار الجـمعـيـة الـدوليـة للعلـوم الاقتصـاديـة عقـد مـؤتـمـرهـا الـرابـع عشـر ببـلادنـا، وتحـديـدا بـمـراكـش، الـمـدينـة العـريقـة، الـمتـميـزة بتـجـذرهـا الـراسخ في عـمـق التـاريـخ والحضـارة الـمغـربيـة، وانفتـاحهـا الـدائـم على الحـوار والحـداثـة، وصيتـهـا الـمشهـود، كقبـلة للـملتقيـات العـالـميـة الـمرمـوقـة، وملـتـقى خصـب للتفـاعـل الإيـجابـي بيـن الثقـافـات.
وإن الـمغـرب لـمعتـز بـأن يستقبـل، في هذا الفضاء الـمفعـم بالتفاهـم والتـآلـف الإنسـاني، والتبـادل الـمثـمر، صفـوة مـن الأعـلام الاقتصـادييـن الـوافـديـن من مناطـق وثقـافـات متنـوعـة، مـن أجـل تعـميـق النقـاش والتحاور حـول قضـايـا اقتصـاديـة ذات أهـميـة قصوى بالنسبـة لـمجتـمـعـاتـنـا؛ قـضـايـا تطـرح اليوم، في خـضـم التـطور السـريـع للعـالـم الـمعـاصـر بنـوع من الإلحـاحيـة، وتـفـرض نفسـهـا كتـحـد إزاء العـقـل والفـكـر، وتجاه طـمـوح الإنسـان لبنـاء عـالـم أفـضـل.
وفـي هـذا الصـدد، فـإن الأهـميـة الـمـميـزة لـمؤتـمركـم تتـمـثـل ليـس فقـط بالنـظـر إلى الـمكـانـة الـمـرموقـة للـمـشـاركيـن فيـه، ولـكن اعتـبـارا كـذلـك لغـنـى وتـنـوع الـمـوضـوعـات التـي سيـنـاقـشـها، والـتي تـجـلي حيـويـة التفـكيـر الـذي دأبـت مـجـموعـة البـاحثيـن فـي العلـوم الاقتصـاديـة علـى بلـورتـه باسـتــمـرار، مـن أجـل فـهـم أمـثـل وتنـويـر أفـضـل للـمشـاكـل الاقتصـاديـة الـمتنـاميـة التعـقـيـد؛ وذلك ضـمن عالـم مطـبـوع بكـونـيـة شـامـلـة، حـيث التحولات العلـميـة والتكنـولـوجيـة تضـفـي علـى مفـاهـيـم التنـميـة وإنتـاج الثـروات وتـوزيـعهـا تجـليـات جـديـدة، كـمـا أنـهـا تـضـع علـى الـمحـك الـمـؤسسـات والأنـمـاط التقـليـديـة للتنـظيــم والضـبـط والحكـامـة.
ومـن شـأن ذلـك أيـضا أن يـعيـد إثارة أسئلـة جـوهـريـة بالنـسبـة للبشـريـة، تتعـلـق بـمستقبـلـها وبالـمعنـى الذي تـريد إعـطـاءه للتنـميـة ولتنظـيـم التـوازنـات الاجتـمـاعيـة وحـمـايـة الـمـوارد والبيـئـة.
وهكـذا، فـإن القضـايـا الـمتعـددة الـمـرتبطـة بالنـمـو والتشـغيـل، وبـمحـاربـة الفـقـر والـفـوارق، وبالاستثـمـار والتـمـويـل، والتـبـادل الـحـر، وكـذا تـلـك الـمـتـعـلـقـة بنـجـاعـة الـمـؤسسـات، والحكـامـة الجيـدة، ودور الـمـرأة في الـمجتـمـع، وبقـيـم وأخـلاقيـات الاقتـصـاد ... تـستـدعـي كلهـا تحييـنـا وتجـديـدا مستـمـريـن عـلـى مستـوى النظـريـات الاقتـصـاديـة، ولا سـيـمـا فـي ارتـبـاط بـالتـقـدم الحـاصـل في الحـقـول العلـميـة الأخـرى، وفـي مـواكبـة دائـمـة للأسئـلـة الجـديـدة. وهـي القضـايـا التـي تقـع اليـوم في صـمـيـم بـرنـامـج العـمـل الـذي رسـمتـمـوه، بـدقـة كبـيـرة، لجلـسـات مـؤتـمـركـم الـرابـع عشـر.
كـمـا أن هـذه القـضـايـا تتـبـوأ، في مجـملـهـا، مكـانـة مـركـزيـة فـي انشغـالات التجـربـة التنـمـويـة التـي نقـودهـا اليـوم في الـمغـرب ؛ تنـميـة نـريـدهـا أن تـكـون بشـريـة ومستـديـمـة، فـي حـرص تـام عـلى صيـانـة كـرامـة الإنسـان، واحتـرام حقـوقـه، والنـهـوض بـهـا، وعـمـل دؤوب عـلى تحـريـر كـل طـاقـاتـه.
ومـن هـذا الـمنطلـق، وبالنـظـر لاتسـام سيـرورات الانفـتـاح غـالبـا باللاتـمـاثـل، فـإننـا مدعـوون جـميعـا، ولا سيـمـا في مجـمـوعـة بـلـدان الجنـوب، لإدخـال الإصـلاحـات الضـروريـة، الكفيـلـة بتحـديـث اقتصاديـاتنـا، لاستيـعـاب كـل الإمكـانـات الإيجـابيـة التـي تـوفـرهـا العـولـمـة.
حضـرات السيـدات والسـادة، لقـد فتحـت بـلادنـا العـديـد مـن الأوراش التـي تصـب فـي منطـق الإصـلاحـات، متـوخيـة بـذلك تـأهيـل طاقـاتنـا لإنتـاج الثـروات، وتعـزيـز قـدرة مـواردنـا البشـريـة، وضـمـان تنـوع الاختيـارات والفـرص أمـام كـل رجـال ونسـاء الـمغـرب، لكـي يتـمتعـوا بمـواطنـة كاملـة وفاعلـة.
وفـي السيـاق ذاتـه، قـمنـا بإصـلاحـات متعـددة، مكنتنـا مـن تحقـيـق مكـاسـب هـامـة، وقطـع خطـوات متقـدمـة علـى درب الـمضـي قـدمـا بـالانتقـال الديـمقـراطـي. كـمـا أطلقنـا مشـاريـع فـي قطـاعـات اقتصـاديـة متنـوعـة، بـاعثنـا فـي ذلـك تهيـيء بيئـة قـانـونيـة رفيعـة، ومـؤسسـات فعـالـة، وتـوفيـر نشاط متنـام للاستـثـمـار الـوطنـي والأجـنبـي، وضـمـان تنـافسيـة عـاليـة لـمنتـوجاتنـا ولنسيجنـا الاقتصـادي، مـع تـدعيـم ذلك بـآليـات نـاجعـة للتـمـاسـك والانـدمـاج الاجتـمـاعـي.
وضـمـن هـذا الـمنظـور، قـمنـا مـؤخـرا بإطـلاق "الـمبـادرة الـوطنيـة للتنـميـة البشـريـة"، في اتـجـاه إعـطـاء مـدلـول جـديـد لـمطـلـب التنـمـيـة الاقتـصـاديـة، أسـاسـه تكـافـؤ الفـرص، وتعـمـيـم الـولـوج إلى الـمعـرفـة والخـدمـات الاجتـمـاعيـة الأسـاسيـة، والـمشـاركـة الديـمقـراطيـة للساكنـة في بـنـاء مستقـبلـها، وتـوفيـر ظـروف العيـش الحـر الكـريـم، ضـمـن غـد أفضـل وأرغـد لأطفـالهـا. فـضـلا عن إعادة مـلاءمـة أنـمـاط قيـادة السيـاسـات العـمـومـيـة فـي اتـجـاه الـمـزيد مـن القـرب والـمسـؤوليـة والنجـاعـة، والشـراكـة مـع مختـلـف الفـاعليـن فـي مجـال التنـمـيـة.
وفـي هـذا الإطـار، فنحـن مقتنـعـون بـأن النـمـو الاقتصـادي ليـس بـمقـدوره لـوحـده أن يـمكننـا من بـلـوغ الغـايـات الـمثلـى للتنـميـة البشـريـة الـمستـديـمـة، كـمـا أنـه لـن يكـون قـويـا ومنـصفـا فـي أي بـلـد، طـالـمـا ظلت طـاقـات وطنـيـة واسـعـة عـلى هـامـش الحيـاة الاجتـمـاعيـة، ودواليـب وحـركيـة خلـق الثـروات.
وذلـكـم هـو النـمـوذج الـذي نعـمـل عـلى تـرسيخـه بالتـدريـج فـي بـلادنـا، بالنـظـر لـمـا نتـوفـر علـيـه من وسـائـل وطنيـة، ولـمـا يتيـحـه لنـا مـحيطنـا الإقـليـمي والـدولـي مـن إمكـانـات، وكـذا مـا يفـرضـه عليـنا مـن إكـراهـات وصعـوبـات.
وهـو نـمـوذج نتقـاسـم أهـدافـه الكبـرى مـع العـديـد مـن البلـدان الأخـرى فـي العـالـم، التـي تعـمـل عـلى الـمـزاوجـة الخصـبـة بيـن مـنطـق التـحـديـث والـدمـقـرطة والانفـتـاح الاقتـصـادي، وبيـن مـتطلبـات التحـسيـن الـمطـرد لـمـؤشـرات التنـميـة البشـريـة في إطـار روح الـمشـاركة الجـمـاعيـة والتضـامـن، وكل ذلك ضـمـن ترابـط وثيق بيـن تحصيـن ما حققـناه في الانتـقـال الديـمقـراطـي، بـالانتقـال الـمـوازي، مـن اقتـصـاد الـريـع التقـليـدي، إلى الإقتـصـاد العـصـري الـمنـتـج والتـنـافسـي، ومـن مـجتـمـع التـواكـل، إلى تـرسيـخ قيـم الاجتـهـاد والعـمـل والإنتـاج، لتحـريـر وتعـبئـة الطـاقـات، والتحفـيـز علـى خلـق الثـروات، بـمـا يتطلـبـه هـذا الـمسـار الشـاق والطـويـل من جـهـود وتضحيـات، والتـزام وعـمـل بجعـل التنـميـة خير مـجسـد للديـمقـراطيـة، ولتعـزيـز حقـوق الإنسـان فـي مـفهـومـها الشـمـولـي، من خـلال النهـوض بالحقـوق الاقتصـاديـة والاجتـمـاعيـة والثقـافيـة.
وذلـك هـو النهـج الـذي مـا فتئـنـا نـعـمـل، بكـل عـزم وحـزم، علـى تـرسيخـه سـواء فـي سيـاسـاتنـا الـداخليـة، أو فـي مـجـال تعـاوننـا الـدولي، الثنـائـي أو الجهـوي، أو علـى صعيـد الـمنظـمـات والهيـئـات والتـجـمعـات الـدوليـة، حيـث أصبـح الاقتصـاد عـمـاد التكـتـلات العـصـريـة، وجـوهـر وقطب رحى الانـدمـاجـات الإقـليـميـة والقـارية الـمـوفقـة والقـوية والـواعدة. نـهـج قـوامـه الـمسـؤوليـة، والتضـامـن الفـاعـل، والتـعـاون مع سـائـر شعـوب العـالـم، لـمـا فيـه خير تقـدم البـشـريـة جـمعـاء، فـي نـطـاق السلـم والأمن والاستقـرار، والوئـام والـرفـاهيـة والازدهـار.
وإننـي لعـلـى يقـيـن مـن أن مـؤتـمـركـم سيـسـهـم فـي تقـديـم إضـاءات حـول مـختـلـف هـذه الأسئـلـة، مـوضـوع الاهتـمـام الـكـونـي، وفـي إعـطـاء مـحتـوى مـتـميـز للجسـور الفكـريـة والبـشـريـة التـي يجـب أن تـظـل قـائـمـة بيـن عـالـم العـلـم وأهـل الخـبرة، وبيـن مـراكـز القـرار وكـل القـوى الحيـة الفـاعلـة.
وإذ أعـرب لكـم عـن إشـادتـي بالجهـود الـمـوفقـة، الـتي تبـذلهـا الجـمعيـة الـدوليـة للعلـوم الاقتـصـاديـة، في هـذا النطـاق، سـائـلا الله تعالى أن يلـهـمهـا مـوصـول السـداد، فـإنـي أتـمنـى لـكـم مقـامـا طيـبـا فـي الـمغـرب، ولجـمعـكـم الـمـوقـر كـامـل التـوفيـق.

والسـلام عليـكـم ورحـمة الله تعالى وبـركـاتـه."