نص الرسالة السامية التي وجهها جلالة الملك إلى المشاركين في منتدى أصيلة الثقافي الدولي

أصيلة يوم 04/08/2006

( تلى الرسالة وزير الشؤون الخارجية والتعاون السيد محمد بنعيسى )


"الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه،
أصحاب المعالي، حضرات السيدات والسادة ،
يطيب لنا أن نتوجه بالخطاب إلى المشاركين في هذه الدورة، لجامعة المعتمد بن عباد الصيفية، المنعقدة في إطار فعاليات منتدى أصيلة، الذي أصبح، مع توالي السنين، فضاء للحوار الرصين، والتبادل الفكري المثمر، وملتقى للنقاش البناء، حول العديد من القضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية الهامة
وإن اختياركم لموضوع "مشروع الولايات المتحدة الإفريقية : إلى أين ؟" وقراركم بجعله مناسبة لتخليد الذكرى المئوية لميلاد المرحوم ليوبولد سيدار سانغور، باعتباره من أبرز المدافعين عن إفريقيا وهويتها الثقافية، والداعين للاندماج الجهوي، لدليل على ما لمنتدى أصيلة من توجه إفريقي بناء، وما للمملكة المغربية من حرص على رعاية هذا التوجه وتنميته
ونغتنم هذه المناسبة، لنعرب من جديد ، عما نكنه من إكبار وتقدير لهذا الزعيم التاريخي، والمثقف الملتزم، الذي كان، بلا منازع، من بين الأدباء الأفارقة الرواد، الذين دافعوا عن التنوع الثقافي لإفريقيا، معتزين بالانتماء الزنجي والتغني به، وساهموا في ترسيخ الهوية الإفريقية المتميزة. وبذلك ارتقى، بفضل هذه الرؤية الثاقبة، بهذه الحركة الثقافية إلى مستوى إيديولوجيا سياسية إفريقية حقيقية. بل إنه كان من أكبر المدافعين عن التمازج بين الشعوب والأعراق، معتبرا الأفريقانية بمثابة التحام تكاملي بين القيم العربية والقيم الزنجية، وأن اقتصار قيام الوحدة الإفريقية على أساس مناهضة الاستعمار فقط، يقلص من أسباب نجاح المشروع الأفريقاني
أصحاب المعالي،
حضرات السيدات والسادة،
تشكل الخصوصيات الإفريقية أحد مكونات الهوية المغربية، الغنية بتعدد روافدها، والتي ما فتئت تترسخ، عبر الروابط المتعددة والعريقة، التي تجمع المملكة المغربية بمحيطها الإفريقي. هذه الروابط التي تعززت خلال الكفاح المشترك للتحرر من نير الاستعمار، والتطلع إلى غد أفضل
ولقد شكل المغرب، منذ حصوله على الاستقلال، فضاء خصبا لنهضة الوعي الجماعي الأفريقاني. وفي هذا السياق، احتضنت المملكة أول مؤتمر وحدوي إفريقي. كما شكلت قاعدة أساسية للعديد من حركات التحرير الإفريقية، ووفرت لها الظروف الملائمة لمواصلة نضالها، من أجل الحرية والانعتاق
وإن مؤتمر الدار البيضاء، الذي انعقد، بمبادرة كريمة من جدنا المقدس، جلالة الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، كان أول دعوة إلى الوحدة الإفريقية، حيث أرسى دعائم العمل الإفريقي المشترك، ومكن من توحيد الرؤى وتنسيق الجهود، من أجل أن تنعم شعوب قارتنا بحياة كريمة، بعيدا عن الحاجة والخوف. وكان المشاركون في هذا اللقاء التاريخي يطمحون لبزوغ عهد جديد، تصبح فيه القارة الإفريقية محررة ومتوجهة بعزم نحو المستقبل
ومباشرة بعد اعتلائه العرش، عمل والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، أكرم الله مثواه، في أبريل 1961، على تنظيم مؤتمر حركات التحرير المنتمية للبلدان الإفريقية الخاضعة للاستعمار البرتغالي
وها هي روح مؤتمر الدار البيضاء تتجسد اليوم، بكل طموحاتها وراهنيتها، لنستلهم منها توجهات تفكيرنا وعملنا، من أجل مستقبل أفضل لقارتنا
أصحاب المعالي،
حضرات السيدات والسادة ،
إن الابتهاج الذي عم الدول الإفريقية غداة استقلالها، سرعان ما تحول إلى سراب. كما تحطم حلم الوحدة والتضامن، الذي طالما راود زعماءها. وذلك بفعل الآثار المتداخلة الناجمة عن ظرفية دولية تطبعها المواجهة بين قطبين، ونظام اقتصادي ومالي
مجحف، وتصاعد النزعات العرقية الضيقة، ومحاولات الهيمنة، وكذا السياسات السوسيو- اقتصادية الفاشلة
ومن ثم، خسرت إفريقيا ليس فقط رهان الاندماج الجهوي، وابتعدت عن حلم الوحدة الحقة، بل غدت مرتعا خصبا لمآسي العالم، التي غالبا ما تأخذ أبعاد أزمات خانقة
فالنزاعات الجهوية والحروب الأهلية، والمجاعة والجفاف والتهجير القسري، والأوبئة الفتاكة، والخروقات التي تطال حقوق الإنسان، تشكل كلها الواقع المعيش لفئة عريضة من شعوب الدول الإفريقية
إن الوضعية الاقتصادية للقارة، وضعف التزام المجتمع الدولي تجاهها، لمن العوامل التي تحول دون تحقيق أهداف التنمية للألفية في إفريقيا، كتعميم التعليم أو تخفيض عتبة الفقر، اللذين لن يتحققا في ظل الأوضاع الراهنة
وبموازاة ذلك، تواجه إفريقيا تحديات كبرى من الناحية الأمنية. ذلك أن نصف الدول الإفريقية تقريبا، ظلت تعاني، ولسنوات طويلة، من معضلة الحروب. كما أن العديد منها وجدت نفسها مسرحا لاندلاع نزاعات مسلحة، تشكل تهديدا لمناطق بأكملها. بالإضافة إلى الأوبئة والأمراض الفتاكة التي أصبحت بمثابة حرب دائمة.
كما أن المعضلة الديمغرافية، التي تعد من أكبر التحديات التي تواجه قارتنا، لا تواكبها أي تنمية بشرية أو اقتصادية، علاوة على ارتفاع الديون المتراكمة على دولها، كل ذلك يغرقها في دوامة من العنف والتطرف، ويدفع بشبابها إلى الهجرة غير المنظمة والمكثفة، المحفوفة بالمخاطر بالنسبة لحياة الأفراد ولاستقرار الدول
أصحاب المعالي،
حضرات السيدات والسادة ،
أمام هذا الوضع الخطير، فإنه لا مناص من أحد خيارين اثنين لمواجهة هذه التحديات. أما الخيار الأول، فيقوم على مبدإ التسليم بالأمر الواقع، والتخلي عن القيام بأي مبادرة تذكر، باعتبار أن الوضع في إفريقيا قد بلغ درجة عالية من التعقيد، وأن جميع الحلول للخروج بالقارة من الوضع المأساوي، الذي تتخبط فيه، قد استنفدت
وأما الخيار الثاني، وهو الذي تتبناه المملكة المغربية وتدافع عنه، ويقوم على رفض الرؤية التشاؤمية إلى الأوضاع، والدعوة، بدل ذلك، إلى عمل تضامني مسؤول، حازم وخلاق، يهدف إلى قيام "إفريقيا جديدة".
ذلكم أن القارة الإفريقية لا يمكن اختزالها في هذا الجانب المظلم فقط، لأنها تتوفر على مؤهلات وموارد طبيعية وبشرية هائلة ، من شأنها أن تمكن قارتنا المعطاء والمفعمة بروح التضامن، من النجاح في فرض وجودها، من خلال اعتماد إصلاحات شجاعة.
فهناك العديد من التجارب الناجحة، التي تحققت في بعض المناطق داخل القارة الإفريقية، مما يؤكد أن عوامل التطور الديمقراطي، والتقدم الاجتماعي، والاقتصادي، تبدو أقوى تأثيرا من عوامل التخلف والركود
أصحاب المعالي،
حضرات السيدات والسادة ،
إننا مطالبون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بإرساء أسس استراتيجية تنموية مندمجة لقارتنا، كفيلة بتمكين شعوبنا من العيش في منأى عن الخوف والفاقة، وتحصينهم من ويلات البؤس والأمراض المعدية.
إن خلاص القارة الإفريقية رهين بتحقيق اندماج يوفق بين الواقعية والطموح، ويحسن الاستفادة من الطاقات الهائلة، التي تزخر بها èويشكل تنسيق الجهود المبذولة لتحقيق الاندماج الجهوي، وإدراجها في إطار مشروع وحدوي، الشرط الأساسي لتوطيد التكتلات التضامنية، والتخفيف من حدة التوترات. وإننا من منطلق تشبثنا العميق بقارتنا وثقتنا في مستقبلها، لنتعهد بمواصلة العمل والمثابرة من أجل التحسيس واستنهاض الهمم وتحفيز ذوي الإرادة والعزيمة
إن أي تصور حول "الولايات المتحدة الإفريقية" لن يكتمل دون تعزيز الهياكل شبه الإقليمية، التي ينبغي أن تكون ملازمة لكل عمل مشترك على الصعيد الإفريقي. كما أنه يستوجب تحقيق اندماج سياسي توافقي ذي مصداقية، يراعي متطلبات احترام الثوابت الوطنية، والوحدة الترابية للدول، وحسن الجوار والأمن الجماعي
إن الهدف الأسمى المتوخى من اندماج قارتنا هو تمكين البلدان الإفريقية من تحقيق التكامل بين اقتصاداتها، وتوحيد مؤهلاتها ومواردها وطاقاتها، لتحقيق تنمية قائمة على مبدأ الوحدة والتآزر، الذي أصبح ضرورة لا محيد عنها، لمواجهة تحديات العولمة الشمولية. كما ينبغي بلورة تعاون جنوب-جنوب مثمر ومفيد لكل الأطراف، يرتكز على تبادل التجارب والبحث عن الآليات التجديدية، مثل التعاون اللامركزي، والشراكة بين الفاعلين في القطاع الخاص، والتحالفات الاقتصادية الاستراتيجية، والتعاون الثلاثي الأطراف.
ويجب على أي استراتيجية تعتمد في هذا المضمار، أن تكرس الصبغة المحورية للعامل البشري. فالشباب الإفريقي، الذي يشعر بأنه لا يزال مهملا، يشكل خزانا حقيقيا لمقومات النمو الاقتصادي. لذا، يتعين إدماجه باعتماد سياسات جريئة في مجالات التربية والتكوين والشغل.
وتندرج الجولات التي قمنا بها في العديد من البلدان الإفريقية الشقيقة، منذ اعتلائنا العرش، ضمن رؤية تهدف إلى حشد الموارد والطاقات، قصد تعزيز سياسات ثابتة ومستمرة، في مجالات تحقيق الاستقرار الإقليمي، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والدمقرطة والحداثة بالقارة الإفريقية.
أصحاب المعالي،
حضرات السيدات والسادة ،
إن تكريم القادة الذين كانوا يتمتعون بجاذبية خارقة، ورؤية أفريقانية طموحة، مثل المرحوم ليوبولد سيدار سانغور، لمما يستحث الأجيال الحالية من الأفارقة، على استلهام الروح الإفريفية الوحدوية، وتحمل المسؤولية الملقاة عليهم، بمتابعة النضال الإفريقي ضد الفقر والتهميش الاجتماعي، والأمراض الفتاكة والأمية والرشوة وسوء الحكامة.
فالعمل في هذا الاتجاه يعد خير وفاء لأرواح هؤلاء القادة الكبار، والطريقة المثلى للثناء عليهم، والتعبير عن تقديرنا الخاص لهم، لكونهم شخصيات راودها الحلم بقارة إفريقية ديمقراطية، مستقرة سياسيا، مزدهرة ومندمجة اقتصاديا، متضامنة وسخية اجتماعيا، حريصة على احترام حقوق مواطنيها وكرامتهم.
وفي الختام، فإننا إذ نرحب بكل المشاركين في هذا الملتقى الهام، لنشيد بمؤسسة منتدى أصيلة، وبمبادراتها البناءة، داعين لأشغالكم بكامل التوفيق والنجاح.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".