نص الرسالة السامية التي وجهها جلالة الملك إلى المشاركين في المؤتمر الاسلامي الثالث لوزراء البيئة بالرباط

الرباط يوم 29/10/2008

وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس رسالة سامية إلى المشاركين في المؤتمر الاسلامي الثالث لوزراء البيئة الذي تنظمه المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) .

وفي ما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها مستشار صاحب الجلالة السيد عبد العزيز مزيان بلفقيه خلال افتتاح المؤتمر اليوم الاربعاء بالرباط :


"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه ،

صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن ناصر بن عبد العزيز، الرئيس العام للأرصاد وحماية البيئة،

أصحاب المعالي والسعادة،

حضرات السيدات والسادة،

كم نحن سعداء بوجودكم اليوم بيننا، وأنتم تجتمعون في رحاب الإيسيسكو، هذه المنظمة الإسلامية العتيدة التي نعتز بوجود مقرها في المغرب، وبما تنجزه من أعمال وما تقدمه من برامج حَريَّة بتعزيز التعاون في مجالات متعددة، من بينها العمل على بث الوعي والإشعاع العلمي بقضايا البيئة في العالم الإسلامي.

إن الإنسانية اليوم تُواجه مشاكل بيئية متشعبة وحادة، ساهمت في تدهور الأنظمة البيئية واختلال توازنها، مما أثر سلبا على ظروف حياة الإنسان وإطار عيشه. وإذا كانت هذه المشاكل لا تقتصر على جهة دون أخرى، بحكم أن مؤثراتها السلبية غير محدودة، فإن التصدي لها يظل مسؤولية جماعية يتحملها الأفراد كما تتحملها الجماعات.

وإن مبادرتكم هذه بإيجاد إطار مؤسساتي لتعزيز العمل الإسلامي المشترك ،في هذا المجال الحيوي، لتعتبر إيجابية وطموحة لحل المعضلات البيئية ببلداننا، خصوصا وأن ديننا الحنيف كرم الإنسان وجعله خليفة في الأرض، وسخر له ثرواتها وكلفه بعمارتها، وحثه على توفير الظروف الأساسية للحياة الآمنة والمتوازنة.

فإذا كانت دولنا قد انخرطت بكل مصداقية في الجهود التي تبذلها المجموعة الدولية من أجل تحقيق أهداف تنمية دائمة، فإنه لازالت هناك عدة تحديات تواجهها، نتيجة الضغط المستمر على مواردنا الطبيعية واستنزافها، وتفاقم الظواهر الطبيعية القصوى من جفاف وفيضانات وأعاصير وكوارث طبيعية متعددة.

وتساهم ظاهرة التغيرات المناخية بمؤثراتها الخطيرة في تهديد مستقبل دولنا وأمنها الغذائي، مما يحتم علينا، من منطلق التضامن الإسلامي، أن نعمل على مواجهة آثارها الوخيمة على مجتمعاتنا واقتصاديات بلداننا، وأن نعمل كذلك على توحيد مواقفنا على المستوى الدولي، والانخراط في الجهود المبذولة عالميا للتغلب على ظاهرة الاحتباس الحراري.

وقد كانت تجربة المغرب في تدبير موارده المائية وسيلة فعالة لمعالجة هذه الظواهر والحد من وطأتها على الطبيعة والإنسان. ويعد اللجوء المكثف إلى تشييد السدود من أنجع الوسائل للتأقلم مع حدة تلكم الظواهر. وقد تم تشييد ما يزيد عن 120 سد كبير، مما مكن من تعبئة طاقة تخزينية تزيد عن ستة عشر مليار متر مكعب، ومن توفير مستوى عالٍ من الحماية ضد الفيضانات، ومن تسخير موارد تؤمن احتياجات البلاد أثناء فترات الجفاف.

وما كان لهذه المشاريع أن ترى النور، لولا التعاون الفعال للدول الإسلامية وتضامن هيئات التمويل الإسلامية. وإننا بهذه المناسبة لنتوجه بخالص الشكر إلى البنك الإسلامي للتنمية، وإلى المصارف العربية باعتبارها إحدى أهم الدعائم المالية لإنجاز هذه المشاريع التي اكتسب منها المغرب خبرة هامة في مجال تدبير موارده المائية يمكن تعميمها بين دولنا الإسلامية.

صاحب السمو الملكي،

أصحاب المعالي والسعادة،

حضرات السيدات والسادة،

ها أنتم تلتقون اليوم في هذه المحطة الثالثة للمبادرة الإسلامية التي قامت لتعزيز التعاون بين بلداننا في مجال البيئة والتنمية المستدامة، والتي انبثقت عن إعلان جدة التاريخي للمنتدى العالمي الأول للبيئة من منظور إسلامي، وهو المنتدى الذي احتضنته المملكة العربية السعودية الشقيقة سنة ألفين تحت الرعاية السامية لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد ابن عبد العزيز تغمده الله بواسع رحمته ; إيمانا منها بحتمية تكثيف جهود الدول الإسلامية لمواجهة التحديات والرهانات البيئية المعاصرة، والسعي إلى تحقيق تنمية حقيقية تستجيب لطموحات
شعوبنا وتطلعاتها المستقبلية.

لقد شكل إعلان جدة لبنة أخرى للرقي بالتعاون الإسلامي في مختلف المجالات الحيوية، وما تضمنه من رؤى بعيدة لقضايا التنمية في العالم الإسلامي.

وما مؤتمركم اليوم إلا مناسبة للوقوف على التقدم الحاصل في تنفيذ برنامج العمل الإسلامي الذي أقره المؤتمر الأول، وتحديد العوائق، والبحث في أفق تفعيل هذا البرنامج، وإيجاد صيغ فعالة لتجسيده على أرض الواقع، والخروج بتصور موحد وموقف مشترك تجاه مختلف القضايا البيئية التي ستعرض عليكم.

صاحب السمو الملكي،

أصحاب المعالي والسعادة،

حضرات السيدات والسادة،

إن تحقيق التنمية المنشودة يَمر حتما بمواجهة الفقر من خلال تعميم الخدمات الاجتماعية الأساسية، كالماء الشروب والتطهير الصلب والسائل، وكالصحة والأمن الغذائي والتربية والتكوين، وتعزيز التمويلات الخاصة بالمشاريع الصغرى والمتوسطة والمبادرات المحلية المدرة للدخل.

وفي هذا الصدد تبنت المملكة المغربية استراتيجية لتحقيق أهداف تنمية مستدامة تسعى بالأساس إلى تحسين إطار عيش المواطنين وظروف حياتهم، من خلال إنجاز مشاريع ميدانية ملموسة، كالبرنامج الوطني للتطهير السائل وبرنامج تدبير النفايات المنزلية، وبرنامج حماية الواحات وتنميتها، والبرنامج الوطني للتأهيل البيئي للمدارس القروية.

كما شرعت بلادنا منذ سنة 2005، في تنفيذ برنامج طويل المدى في هذا المجال. ويتمثل في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أدمجت البعد البيئي في برامجها ومشاريعها المختلفة. وهو ما يتأتى كذلك بالعمل على حماية مواردنا الطبيعية وترشيد استهلاكها. إن العالم الإسلامي يزخر بثروات هائلة ومتنوعة، وإن تعاليم ديننا الحنيف تدعو إلى المحافظة على التنوع الإحيائي، باعتباره من المرتكزات الإسلامية الأساسية. ففي قوله تعالى:
"وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم"، ما يؤكد أن اعتبار التنوع البيولوجي يشكل أنظمة قائمة بذاتها، يجب الحفاظ عليها لما فيه خير الأجيال الحالية واللاحقة.

وتظل إشكالية المياه إحدى القضايا الرئيسية للعمل الإسلامي البيئي. فكل دولنا تعاني من ندرة المياه نتيجة تفاقم الظواهر الطبيعية القصوى، وكذا الضغط المتزايد على هذا المورد الحيوي; مما يتطلب عملا تضامنيا وذا أولوية. فأمننا الغذائي، كتنمية بلداننا بصفة عامة، مرتبط بمدى تعبئة الموارد المائية و ترشيد استعمالاتها المتعددة، وتطوير المؤسسات و التشريعات والقدرات الخاصة بتدبير الماء ; هذا المورد الذي جعله الله عز وجل أساس الحياة إذ قال:

"وجعلنا من الماء كل شيء حي"، وبه أنعم على بني البشر، مبينا إنزاله في قوله جلت قدرته: "وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه، وما أنتم له بخازنين".

وقد وعى المغرب منذ عقود أهمية نهج سياسة محكمة في هذا المجال، وذلكم من خلال التدبير المندمج لهذا المورد الحيوي، زيادة على ترشيد استهلاكه، وكذا إعادة استغلال المياه العادمة بعد معالجتها في مجالات الري.

وإننا لنود هنا أن نسجل جهود الإيسيسكو في هذا المجال الحيوي، خصوصا فيما يتعلق بتعزيز قدرات جميع المتدخلين في العالم الإسلامي لتدبير المياه، وأن نؤكد أهمية هذه الجهود، آملين أن تستمر لتحقيق أهدافها النبيلة بالتعاون مع بلداننا، وما تزخر به من إمكانات وخبرات.

وبهذه المناسبة نعرب عن تنويهنا بالتعاون الوثيق بين الإيسيسكو ومؤسسة محمد السادس لحماية البيئة، تحت رئاسة شقيقتنا صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء، وما يهدف إليه من ترسيخ مبادئ المحافظة على البيئة وقيمها، من خلال تنفيذ خطط طموحة للتربية والتواصل في مختلف المجالات البيئية. وهي مشاريع ما فتئت تدعم البرامج التي تسهر على تنفيذها القطاعات الحكومية.

لقد تميزت الدورة الثانية لمؤتمركم بوضع تصور لإستراتيجية تنموية إسلامية، وسيكون لكم هذا اللقاء الثالث فرصة لمناقشة الإطار العام لهذه الإستراتيجية وآليات تنفيذها. وإننا لنرى أن التحقيق الفعلي لبرنامج العمل الإسلامي يمر عبر توفير الظروف الملائمة التي منها على الخصوص:

أولا: إيجاد آليات مالية لتنفيذ البرامج والأنشطة، وذلكم بتفعيل مقترح إحداث صندوق إسلامي للتنمية المستدامة.

ثانيا: خلق شراكات مع هيئات التمويل الإقليمية والدولية. وهو ما يقتضي وضع برامج محددة تشكل قاسما مشتركا للمنظومة الإسلامية ككل، خصوصا في مجالات تعزيز القدرات ونقل التكنولوجيا النظيفة بيئيا، وتعزيز التشريعات البيئية وتعميم التربية والتكوين.

ثالثا: الانفتاح العملي على القطاع الخاص في العالم الإسلامي وتحفيزه للمساهمة في تحقيق أهداف هذا البرنامج وحثه على الاستثمار في مجالات التنمية، واعتماد آليات الإنتاج النظيف.

رابعا: تعزيز دور المجتمع المدني في الأقطار الإسلامية، للمساهمة في تنفيذ برامج هذه التنمية، مع الانفتاح على المنظمات غير الحكومية الدولية، والاستفادة مما تقدمه من دعم في تعزيز مشاركة السكان في البرامج التنموية المحلية، وذلكم على غرار ما تقوم به مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة على صعيد مملكتنا، وفي إطار شراكاتها الجهوية والدولية.

خامسا: إعطاء حيز كبير لإدماج مفاهيم التنمية المستديمة في الأنظمة التربوية في الدول الإسلامية.

في هذا الإطار نؤكد أن مشروع إحداث المركز الإسلامي للمعلومات البيئية يعتبر مبادرة إيجابية لتوفير آلية تقنية ومعلوماتية لرصد التحولات البيئية بأقطارنا الإسلامية وتقييمها، وتوجيه البرنامج الإسلامي للتنمية في تحديد أولوياته، وكذا مساعدة صناع القرار في دولنا على برمجة مشاريعهم البيئية، مما يستوجب على دولنا توفير آليات مماثلة قطرية، كجهات مرجعية لتعزيز عمل المركز والاستفادة من خدماته.

وبالنسبة للمغرب، فقد أحدثنا مند التسعينيات مرصداً وطنياً للبيئة بهدف تتبع الحالة البيئية ببلادنا. وإننا الآن بصدد إنشاء مراصد بيئية جهوية لمساعدة الجماعات المحلية على برمجة مشاريعها، انطلاقا من معطيات بيئية دقيقة، وبهدف تدعيم مبدأ بيئة القرب.

في هذا السياق نقترح عليكم النظر في إمكان إحداث أكاديمية إسلامية للبيئة والتنمية المستديمة، لإغناء البحوث وتبادل التجارب، وتعزيز القدرات من خلال برامج التكوين.

ولعلنا أن نؤكد في الأخير أن رهان اليوم هو العمل على وضع سياسة بيئية كفيلة بالتحكم في الطلب المتزايد على الطاقة، وتشجيع الطاقات المتجددة، وكذا الانفتاح على العالم للاستفادة من التكنولوجيات الجديدة، ومحاولة استغلالها على النحو الأمثل، للمضي قدما في برنامج اقتصاد الطاقة، وتحسين جودة الهواء بتحسين جودة المحروقات ; وذلكم لتحقيق تنمية دائمة، وتعزيز الاستثمار الإسلامي في هذا المجال الواعد.

صاحب السمو الملكي،

أصحاب المعالي والسعادة،

مرة أخرى، نجدد لكم اعتزازنا بعقد مؤتمركم في الرباط، داعين لكم بالنجاح والتوفيق في أشغالكم، وآملين أن تصدر عنكم قرارات وتوصيات من شأنها دعم مسيرة العمل البيئي بالعالم الإسلامي. نشكر لكم حسن إصغائكم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".