نص الكلمة التي ألقاها جلالة الملك خلال مأدبة العشاء التي أقامها على شرفه الرئيس الفرنسي

باريس يوم 20/03/2000

'' الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله واله وصحبه
السيد رئيس الجمهورية
أصحاب السعادة
أيتها السيدات أيها السادة
سوف يدرك الجميع هنا وفي هذه الأثناء المتميزة لماذا أستحضر في أولى كلماتي وأفكاري هذه جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني تغمده الله بواسع رحمته.
ذلكم أن والدي المعظم قد توج الى جانبكم - سيادة رئيس الجمهورية - وعلى منصة احتفالات يوم 14 يوليوز الماضي أحد اخر أعمال عهده وأكثرها تأثيرا في النفس باختيار جلالته ذلكم العيد الذي هو عيد الحرية وحقوق الانسان لاعطاء بعد غير مسبوق لوحدة مثلنا وللثراء المميز لمصيرينا.
في ذلكم اليوم - سيادة رئيس الجمهورية أيها السيدات والسادة - سما العمل السياسي والتعبير الديبلوماسي من خلال حقيقة الرجال ومن خلال القيم التي يعزونها أيما إعزاز. فعندما تقدم أفراد الحرس الملكي استعراض الجنود الفرنسيين في محج الشانزيليزي وعندما امتزجت نغمات النشيدين الوطنيين المغربي والفرنسي أدرك الشعبان المغربي والفرنسي مغزى ذلك أحسن إدراك.
إن التقارب والحميمية الفريدين اللذين شعر بهما كل واحد منا دون أن يعرف أو يقدر دائما على التعبير عن ذلك تبلورا حينئذ بقوة وبمشاعر جياشة محدثين في أعماق بلدينا الاستجابة والمواقف التي توءسس لقوة ولشرعية شراكة مختلفة وطموحة ومبتكرة تنسجم مع ما يروم المغرب وفرنسا تطويره وإقامته معا في حظيرة المجموعة الأممية.
ذلك هو المقصود بالضبط وذلك هو المشروع الذي أتجند له سيادة رئيس الجمهورية. ويبقى صحيحا أننا عندما نتفحص اليوم إطار وتفاصيل علاقاتنا سياسية كانت أو اقتصادية فانه بوسعنا أن نعبر عن ارتياحنا.
إن فرنسا تحتل مكان الصدارة في كل شيء بالمغرب. فهي أول مستثمر وأول زبون وأول دولة مانحة ويمكنني أن أتحدث عن مجالات أخرى لتعاوننا طالما عرفت نفس التميز والتألق في غالب الاحيان. وتحضرني هنا على الخصوص الخطوة الرائدة لفرنسا التي عرفت قبل غيرها كيف تحول جزءا من ديونها إلى استثمارات منتجة.
وعلى العموم - وأسجل هذا بسعادة بالغة - فان المغرب هو اليوم في فرنسا أكثر قربا منكم وأكثر ألفة لدى جميع الفرنسيين من أي وقت مضى. ولا يسعني إلا أن أشيد في هذا الصدد بكل الذين نحن مدينون لهم بالجودة الرفيعة والنجاح الكبير الذي حققته تظاهرة '' زمن المغرب'' تلكم التظاهرة التي أسدل الستار موءخرا على اخر أنشطتها والتي ساهمت بفعالية في التقريب بيننا من خلال التعريف بنا بصورة أفضل ومحظتنا التقدير الذي نستحق حتى نكون محبوبين أكثر. فمن الموسيقى إلى الأدب ومن الاقتصاد إلى الفكر كتبت مئتا مدينة فرنسية وءالاف التظاهرات صفحة أخرى من صفحات تاريخنا الحافل وقد فعلت ذلك بحب ومهارة.
إن هذه التظاهرة - أيتها السيدات أيها السادة - التي شكلت فترة رائعة في فرنسا لتجعلني أقول إن هذه المكتسبات لن يكون لها من معنى ولا استمرارية الا إذا وضعناها من الآن فصاعدا في أفق ودينامية شراكة إرادية وتضامنية ونموذجية في الوقت نفسه.
إن المشروع المجتمعي الذي بلوره المغرب والذي يواصل تطويره بانتظام يندرج في الواقع ضمن هذا المنطق وفي الفضاء الاستراتيجي ذاته والقيم العالمية نفسها التي هي بشكل عام قيم فرنسا والعالم الحديث. لكن نقاط الإلتقاء العميقة والبنيوية هاته المتجذرة في الكفاءة الإقتصادية التي تحدثت عنها قبل قليل في حاجة إلى مشروع شمولي اخر لكي تعطي أفضل ثمارها. كما أنها تتطلب تحديد إطار موءسسي جديد كفيل بالدفع بهذه العلاقة وجعلها تحقق الغاية المرجوة منها والتي نريدها علاقة متميزة وجوهرية.
السيد رئيس الجمهورية..
من هذه المقاربة ينبع اقناعي الراسخ بأن الأليات التقليدية للتعاون الثنائي التي تقوم وتتطور على أساسها روابطنا قد بلغت حدود فاعليتها.
لقد كان عملنا معا من الجودة بحيث إن اللباس الذي صنعناه لأنفسنا لم يعد يتسع لنا. بل إنه لم يعد في جزء منه مسايرا للعصر إذا ما أخذنا بالحسبان أن بعض النصوص التي لا زالت تنظم التعاون بيننا تعود في حالات كثيرة إلى الستينيات.
ويتعين علينا إذن من الان أن ننكب على تحديد وترشيد فضاء ثنائي اخر لكي نعطي لعلاقاتنا عمقا جديدا وقواعد عمل جديدة. كما يتعين علينا أن نضع معا معايير تقدير للأخطار المتبادلة التي سيكون علينا تحملها بحيث تكون مقاييس متلائمة بشكل أفضل مع واقع مغرب اليوم ومنسجمة انسجاما تاما مع الاهداف التي سنحددها لمستقبلنا.
إن هذا الإطار الذي سيكون علينا ابتكاره سيادة رئيس الجمهورية إذا وضعناه موضع التنفيذ وإذا أعطى الثمار المرجوة بحق منه باعتبار أصالته يمكن أن يكون إطارا نموذجيا. إنه لمسعى جريىء وقد يبدو مفتقدا للتواضع لكنه في الواقع براغماتي وواقعي.
فهو براغماتي وواقعي لأنه إذا ما استطاعت فرنسا بالنظر إلى المكانة والدور اللذين تضطلع بهما داخل الإتحاد الاوربي وإذا ما استطاع المغرب من جهته باعتباره بلدا عربيا إسلاميا يقر الجميع باشعاعه الروحي وبحضوره الفعلي على صعيدي الشرق الاوسط وإفريقيا خاصة أن يبلورا صيغ هذه الشراكة المتميزة فإن المرجعية المفتقدة حاليا ستتحقق حينئذ لتضفي المصداقية والواقعية والمضمون على الجسر الرابط بين ضفتي المتوسط الذي كنتم سيادة رئيس الجمهورية سباقين إلى الحديث عنه قبل خمس سنوات حينما تحدثتم بحق عن هذا المشروع الاورو متوسطي الكبير الذي تأخر ظهوره على أرض الواقع.
أصحاب السعادة..
أيها السيدات والسادة..
لقد أثارت فرنسا - وكان ذلك في الرباط في يوليوز 1995 - هذا الطموح الاوروبي الكبير وأكدتم ءانذاك سيادة رئيس الجمهورية أنه ينبغي لهذا الطموح أن يستلهم العلاقات المثالية بين المغرب وفرنسا. وإننا اليوم بصدد هذا الموعد مع التاريخ.
بعد بضعة أسابيع ستترأس فرنسا المجلس الاوربي الذي ستكون منطقة حوض المتوسط على جدول أعماله. فهل ستكون هذه فرصة تاريخية لتحريك الإطار الصحيح من الناحية السياسية لكن التقليدي في المحصلة الاخيرة الذي وضعت خطاطته في برشلونة والذي ندرك جميعا الان بعد خمس سنوات محدوديته وتذبذبه.
ولربما حان الوقت كذلك لاعطاء الأجندة الاوروبية في منطقتنا صبغة مختلفة قد يكون من شأنها جعل المغرب وبلدان أخرى بجنوب البحر الابيض المتوسط يحدوها الامل في أن تتطلع الى شراكة تكون في الوقت ذاته..
- أكبر وأحسن من إطار التشارك الذي يجمعنا والذي تمت مراجعته وتصحيحه.
- شراكة قد تكون لبعض الوقت أقل من الانضمام الذي يمليه في الواقع العقل والجغرافيا والواقع اليومي للحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بلداننا.
إن كلامي هذا لا يعني - سيادة الرئيس - مجهودا ظرفيا قد يكون من قبيل الخيال السياسي أو بلاغة اللحظة في الخطاب الاكاديمي.
فعلى العكس من ذلك لدي قناعة بأنه يمكننا ويتعين علينا الان زحزحة بعض الطابوهات في أفق ابرام اتفاق متفرد نعرف جميعا كيف سنعطيه المحتوى الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي الذي هو في النهاية نتيجة طبيعية لأواصر التضامن الواقعي والمصيري الذي يجمع بيننا منذ مدة طويلة.
كما لاحظتم ذلك - أيتها السيدات أيها السادة - إن المغرب منسجم مع نفسه في اختياراته وفي كفاحاته التي يظل على رأسها احلال السلام بين الفلسطينيين والعرب من جهة والاسرائليين من جهة أخرى وكذا تحقيق المصالحة المأمولة التي طال انتظارها بين المسلمين واليهود. إن الكرامة المستعادة والحرية المتقاسمة أيضا - كما أبرزت ذلك في غالب الاحيان - غير قابلتين للمساومة. ان هذه المبادىء الأساسية هي مبادىء كونية لايمكن المساس بها شأنها في ذلك شأن الاحترام التام للالتزامات المتفق عليها. إنني أعني بقولي هذا الاراضي العربية التي لازالت محتلة. وأخص بالذكر بطبيعة الحال مدينة القدس باعتبارها مكانا للتلاقي والحوار والتعايش يتعين أن يستعيد فيه كل مكانه وحقوقه.
إن المغرب باعتباره فاعلا تاريخيا وحريصا على هذا المسلسل لم يعد في حاجة الى تقديم الدليل على التزامه بسلام عادل ودائم سلام يتجاوز الدول والحكومات ليكون سلام القلوب والعقول.
إنه يتعين علينا من أجل انجاز ذلك اعادة الحياة والحيوية الى عقد الثقة الذي شرع العرب والاسرئيليون في بلورته والذي يعاني اليوم في أغلب الاحيان من الوهن بسبب التشكيك وانعدام الثقة وأحيانا من الفتور.
سيادة رئيس الجمهورية
إن الشعور الذي أعبر عنه هذا المساء هو شعور الجيل الذي أنتمي إليه. جيل النساء والرجال الذين تجمعهم في المغرب حماسة الشباب والحكمة والتبصر التي تواكب بطبيعة الحال الكفاح الذي نريده أولويا من أجل أكبر وأفضل ما يمكن من التنمية وأكبر وأفضل ما يمكن من النمو وأكبر وأفضل ما يمكن من الإشعاع الروحي والقدرة على الانفتاح على الغير وعلى الاخرين.
إن هذا الشعور أيها السيدات والسادة هو شعور عاهل ورئيس دولة عربية وإسلامية يرغب مع ميلاد قرن جديد في مشاطرة الشعب الفرنسي منظوره لفضاء إقليمي للتضامن والحداثة كفيل بتمكين مجتمعاتنا على ضفتي المتوسط من التخلص مما تبقى لديها من أفكار بالية ومخاوف قديمة طالما اعترت وكدرت صفو أذهاننا.
إن هذا المشروع المجتمعي سيادة رئيس الجمهورية لن نربحه وحدنا. فهذه هي قناعتي وقناعة جميع المغاربة. وإن الامل ليحدونا في أن تشارك فرنسا في ذلك بإعمال العزيمة السياسية والإقدام والقدرة على الإبتكار والوسائل التي من شأنها توفير كل حظوظ النجاح لهذا التحالف من أجل التقدم.
وإنني أختم كلمتي كما بدأتها سيادة رئيس الجمهورية بالإشادة بالثقة الكبيرة التي تميز العلاقات التي حرص بلدانا على إقامتها بينهما من خلال إعطائها أحسن ما لديهما.
كما أشكركم سيادة رئيس الجمهورية على الإستقبال الحار وحسن العناية اللذين تركا في نفسينا أنا وصاحبة السمو الملكي الاميرة للا حسناء أطيب الاثر. وإنني أود أن أقول أيضا للسيدة شيراك إننا تأثرنا بمدى لطفها وحسن استعدادها والعناية الخاصة التي أحاطتنا بها منذ وصولنا.
أيها السيدات والسادة..
أدعوكم إلى الوقوف احتراما لرئيس الجمهورية الفرنسية والسيدة شيراك مع متمنياتنا لهما بموفور الصحة وللشعب الفرنسي بالسعادة والإزدهار.
عاشت فرنسا
عاش المغرب
عاشت الصداقة المغربية الفرنسية.
والسلام عليكم".