جلالة الملك يوجه رسالة سامية الى اللقاء الوطنى حول اعداد التراب الوطنى

الرباط يوم 26/01/2000

"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وءاله وصحبه

حضرات السيدات والسادة

انه لمن دواعي مسرتنا أن نفتتح بخطابنا هذا انطلاق فعاليات الحوار الوطني حول اعداد التراب الوطني ايمانا من جلالتنا بفضيلة الحوار والتشاور الاوسع كمنهجية حميدة لمعالجة كبريات ملفات الامة وبالاهمية الاستراتيجية للتهيئة الترابية في تحقيق ما ننشده لوطننا العزيز من تنمية شاملة وتضامن فعال بين مختلف فئاته واجياله ومجالاته وتهيىء المناخ الافضل للاستثمار الامثل لكل طاقاته وتمتين نسيج وحدته وتعاضده كي لا يكون هناك مغرب نافع ومغرب غير نافع.
واننا برعايتنا لاشغالكم نقتفي - بكل اجلال وخشوع وامتنان - أثر والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني قدس الله روحه الذي يشهد له تاريخنا المعاصر بانه "الملك الباني" لادراكه المبكر أكرم الله مثواه لاهمية اعداد التراب في مسار التنمية بما شيده من صروح موءسساتية وهيأه من موارد بشرية وأقامه من تجهيزات هائلة ومتعددة وسنه من تشريعات قيمة وحدده من تصورات رائدة نكتفي منها بذكر تولي جلالته سنة 1968 اصدار مرسوم ملكي فريد من نوعه لحرصه رضي الله عنه على وضع اللجنة الوزارية لاعداد التراب المحدثة بمقتضاه تحت رئاسته المنيفة وتضمينه اياه "بيانا للاسباب" يشكل مرجعا لفلسفة اعداد التراب.
وانه لقمين بنا - ونحن نجعل مسك ختام هذا الحوار وضع ميثاق وطني لاعداد التراب - أن نهدي لروحه الزكية الطاهرة انجاز مشروع تناوله نور الله ضريحه بتفصيل في خطاب العرش لسنة 1991 الذي أعلن فيه عن ضرورة تزويد البلاد بهذا الميثاق "للوصول الى افضل توزيع ممكن للانشطة وللموارد على امتداد المملكة والتنظيم العقلاني للمجالات على ضوء الطاقات المحلية والجهوية والوطنية لتشجيع الاستثمارات الخاصة والعامة ..".
وسعيا من جلالتنا لتعزيز المكتسبات وتجاوز أسباب التعثرات وتجديد الطموحات فاننا عازمون على المضي قدما في تناول كل مجالات الحياة الوطنية بالاصلاح الذي تحتاج اليه وذلك بتفعيل كل موءهلات المملكة لكسب الرهانات الداخلية للنمو الاقتصادي والتضامن الاجتماعي والمجالي ورفع التحديات الخارجية للتنافسية والعولمة.
وفي هذا السياق فاننا ندعو لاعتماد منظور جديد لاعداد التراب الوطني قوامه اعتبار التهيئة الترابية أحسن وسيلة للحد من التفاوت الجهوي واداة للتطوير العقلاني للمشهد الحضري وانعاش العالم القروي وأمثل طريقة للتوفيق بين النجاعة الاقتصادية وحماية الثروات من جهة وبين العدالة الاجتماعية والحفاظ على البيئة من جهة اخرى. ذلكم المنظور الذي نحرص على أن يدخل في اعتباره الارتباط العضوي بين تهيئة التراب الوطني والتعمير باعتبارهما وجهين لعملة واحدة.
وفي هذا الصدد فاننا نوءكد على وجوب المحافظة على أصالة المعمار المغربي المتميز بخصوصياته الجمالية والاجتماعية والحضارية لتلافي ما وقعت فيه بعض بلدان العالم الثالث التي أغفلت ما لسياسة التعمير وتهيئة التراب من بعد تنموي.
حضرات السيدات والسادة
ان هذا المنظور الجديد الذي ننشده يستهدف وضع اعداد التراب في صلب استراتيجية التنمية ضمن تصور لا يقتصر على تقويم المجال وتأهيله في اطار اقتصاد عالمي مندمج وانما يتعداه الى تأهيل كل مستويات الحياة الاقتصادية والاجتماعية لبلدنا.
وهذا يعني - من ناحية أولى - تأهيل المجال لجعله قابلا لاستقطاب كل أشكال الاستثمار السياحي والصناعي والفلاحي والخدماتي في اطار التنافسية القوية التي اصبحت تميز النظام الاقتصادي العالمي في أفق العولمة وتحرير التبادل وانتقال الرساميل وبروز تكتلات جهوية وفي ظل ما يعرفه هذا الوضع من رهانات وتحديات كبرى تضع المغرب أمام اختيارات حاسمة.
كما يقصد به "من ناحية ثانية" تسخير جميع الوسائل للنهوض بالمناطق المعوزة وإدماجها في مسار التنمية تحقيقا للعدالة الاجتماعية والمجالية التي نتوخاها لرعايانا الاوفياء بتحسين ظروف عيشهم أينما كانوا عن طريق ضمان فرص الشغل والاستفادة من الخدمات الاجتماعية والتجهيزات الاساسية.
ويتطلب ذلك - من ناحية ثالثة - العمل على جعل التنمية المستدامة من أولويات سياسة إعداد التراب حيث يتعين أخذ هشاشة مواردنا الطبيعية بعين الاعتبار عن طريق استغلالها وفق تدبير عقلاني يحافظ على التوازنات خصوصا تلك المتعلقة بالموارد الاستراتيجية الثمينة كالماء والتربة والملك الغابوي والسواحل والثروات البحرية.
حضرات السيدات والسادة
إننا لن نتمكن من تحقيق أهداف هذا المنظور الجديد لاعداد التراب إذا ما اقتصرنا في تهييء مشروع ميثاقه على السلطات المركزية وداخل مكاتب الادارة التكنوبيروقراطية.
فمشروع الميثاق كما نتوخاه ينبذ التصور المتجاوز الذي كان يجعل من الدولة الموزع الوحيد للخيرات والمسوءول الوحيد عن كل المشاكل والتعثرات.
ولهذا ندعو لاعتماد مقاربة جديدة لاعداد التراب والتعمير تستند على مشاركة مواطنة وتقاسم للمسوءوليات تحتفظ فيها الدولة بوظيفتها التنظيمية والتوجيهية والضبطية ويتم فيها إشراك كل الفاعلين من جماعات محلية وقطاع خاص ومجتمع مدني وذوي الاختصاص وكل المعنيين بهذا المجال في وضع سياسته. كما يتم فيها تحديد أدوار كل من الدولة والجماعات المحلية في تفعيل هذه السياسة خاصة ما يتعلق منها بالادوار الاقتصادية والمالية في مجال إعداد التراب الوطني والتقيد الصارم والنزيه بالضوابط القانونية والتنظيمية فيما يتعلق بوضع تصاميم التهيئة وتسليم الرخص المتعلقة بالبناء والتعمير لوضع حد نهائي لما يشوب هذا المجال من تجاوزات.
ولاننا نوءمن بأن الديمقراطية شرط أساسي للفعالية والتعبئة وامتدادا لمفهومنا الجديد للادارة الترابية - الوارد في خطابنا الموجه بالدارالبيضاء لرجال السلطة وممثلي المواطنين - فإننا ننتظر من هذا الحوار أن يستشعر المصلحة العامة وأن يكون مشروع الميثاق المتمخض عنه وليد الاحتكاك المباشر بالمواطن والملامسة الميدانية للمشاكل ضمن تناغم تام بين المستويات الوطنية والجهوية والمحلية لبلورة مشروع ميثاق متكامل في ضوء تفاعل جدلي بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومشروع التهيئة الترابية يتعزز فيه المخطط التنموي بالبعد المجالي لاعداد التراب ويستفيد فيه هذا الاخير من التصور التخطيطي للمجال كما جاء في رسالتنا السامية الموجهة لخديمنا الارضى وزيرنا الاول في موضوع تهيىء مخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وكل ذلك في إطار استحضار واع لما دعونا إليه من تغيير في قوانين اللامركزية واللاتمركز وفق مفهوم جديد يجعل من السياسة التعاقدية أداة أساسية لبلورة تصور مجالي توافقي لمواجهة رهانات غالبا ما تكون متناقضة ملحين في هذا الصدد على وجوب التفعيل التام لدور الجهة مؤسسة وإطارا في تحديد استراتيجية ناجعة لاعداد التراب الوطني لان نجاح أي مشروع للتنمية الترابية والاقتصادية والاجتماعية رهين بتبني البعد الجهوي. ذلكم البعد الذي يتوقف بدوره - لامركزيا - على تدعيم الامكانيات الذاتية للجهة - ولا تمركزيا - على توفرها على مسوءولين جهويين أكفاء.
حضرات السيدات والسادة
إننا ننتظر من السياسة الجديدة لاعداد التراب الوطني أن تتجه نحو تصحيح الاختلالات الكبرى الناتجة عن تراكمات التاريخ وعوامل الجغرافية والاقتصاد التي طبعت المجال الوطني كملك مشترك للامة. ولاشك في أن هذا الامر يستدعي إشراك كافة الطاقات الفاعلة في بناء هذا المجال وتنميته واعتماد مقاربة متأنية تأخذ بعين الاعتبار التحولات التي يعرفها التراب الوطني في مجالات التوازنات الجغرافية والاقتصادية والديمغرافية والاجتماعية وتتوخى تفادي الصعوبات التي واجهت إعداد التراب الوطني في الماضي جاعلة منه في المستقبل أداة لتوضيح الروءية للفاعلين العموميين والخواص.
وذلكم ما نأمل أن يهدف اليه هذا الحوار الوطنى الذى نبارك انطلاق اشغاله اليوم ونتوسم خيرا فى منهجية أعماله التى ترتكز على فضائل القرب والانصات والتشاور وتفتح أوراشا محلية وجهوية ووطنية لدراسة تطلعات الفاعلين وتجعل التنمية شأنا يهم جميع المواطنين فى جميع ارجاء المملكة شاملة لمختلف القطاعات فيها.
لقد اتجهت ارادتنا كما تعلمون الى تعميق أواصر التضامن فى نسيجنا المجتمعى واننا لننتظر أن يكون حواركم فرصة أخرى لتعزيز الوعى التضامنى الوطنى بين المجالات وبين الاجيال.
ونحن على يقين أن تمثلكم لهذه الغايات وسهركم على حسن انجازها من شانهما أن يجعلا هذا الحوار الوطنى يفضى الى وضع مشروع ميثاق وطنى توافقى لاعداد التراب الوطنى جذير بالاستجابة لتطلعاتنا نحو ترسيخ أسس مجتمع متوازن على الصعيدين الاجتماعى والمجالى وتقوية التضامن الوطنى واطلاق مبادرات النمو الاقتصادى وتفجير طاقاتها داعين لكم جميعا بالتوفيق والسداد.
"ان يعلم الله فى قلوبكم خيرا يوتكم خيرا"
صدق الله العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".