جـلالـة الملك يوجه رسالة إلى المشاركين في ندوة "إنعاش المقاولة الصغرى والمتوسطة.. محرك التنمية الاقتصادية

الرباط يوم 30/11/1999

"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد وأله وصحبه
حضرات السيدات والسادة
يطيب لنا ان نتوجه إلى المشاركين في هذه الندوة القيمة المخصصة لتدارس موضوع يحظى باهتمام جلالتنا ويندرج في اطار حرصنا على تشجيع كل المبارات الرامية إلى تفعيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية بمملكتنا ولا سيما عن طريق انعاش المقاولة الصغرى والمتوسطة التي تشكل محركا أساسيا لهذه التنمية ضمن محيط عالمي لا يغيب عن بالكم ما يعرفه من ثورة متسارعة الوتيرة في مختلف مجالات المعرفة والعلوم وأصناف المهارات والتكنولوجيات ووسائل المواصلات والتخاطب أدت إلى بروز فضاءات تداخلت فيها وظائف الانتاج والتمويل والتبادل وتهاوت أمام فعاليتها حدود الاقتصاديات الوطنية وتفتقت عنها افاق لا حدود لها لعولمة كاسحة تشمل أسواق البضائع والخدمات والموارد البشرية على السواء مما لم يعد ممكنا بمقتضاه لاي بلد كيفما كان حجمه وامكاناته من خيار سوى التأهل للاستفادة مما تتيحه من فرص التقدم والمناعة والتحصن مما تحمله في طياتها من مخاطر التجاوز والتقزيم.
واذا كان هذا النظام الدولي الجديد المفضي إلى ترتيب خارطة موازين القوى في عالم الالفية المقبلة قد تشكل وتمت هيكلته والتحكم في كثير من جوانب مساره من لدن مقاولات لها من حجم الانتاج وقدرات التمويل وهندسية التدبير وأبعاد الخطط والامتدادات ما لا تسعه الجنسية الواحدة او القارة الواحدة فان ما يتبين من الواقع الاقتصادي الملموس وما تعكسه الاحصائيات في البلاد المتقدمة والنامية على السواء هو حقيقة الدور الحيوي والمتصاعد الذي ما فتئت تقوم به المقاولات الصغرى والمتوسطة عندما يقاس وزنها بمقاييس اسهاماتها في انتاج الثروات وخلق فرص الشغل واستعياب التكنولوجيا المتجددة وتحديث مناهج التدبير أسباب الرفاه والازدهار وتقدم العلائق الاجتماعية وتطوير نماذج الثقافات والعقليات.
لقد أصبح من الظواهر التي تطبع مسار البنيات الاقتصادية في البلاد المتطورة والتي يتيح منطق تطورها اليوم فرصا لا يستهان بها للبلاد النامية هي كذلك تلكم النزعة المتنامية للمقاولات الكبرى إلى تفويت جزء من أنشطتها لمقاولات صغرى ومتوسطة تساعد على انشائها في محيطها المباشر او البعيد وتبرط علاقات شراكة معها ومع غيرها من وحدات انتاج بضائع او خدمات سعيا وراء عقلنة تدبيرية تضمن توطيد دعائم الانتاجية والرفع من مستوى التنافسية.
أيتها السيدات والسادة
لقد قيض الله للمملكة المغربية أن كانت سباقة إلى إعتماد اليات إقتصاد السوق وحرية المبادرة في الوقت الذي كان فيه ذلك رهانا صعبا نبذا منها لاغراءات الركون إلى الانكماش والتحفظ وتجنبا لمتهات التذبذب والتردد وتغليبا للتوجه الشجاع نحو الاندماج الواعي في منطق التحولات العالمية بما يتطلب من إصلاحات بنيوية في شتى المجالات ترفع من تنافسية اقتصادنا الوطني وترقى بجاذبيته للاستثمار كيفما كان حجمه ومصدره. ولقد تم هذا الاختيار الواضح في عهد والدنا المشمول برحمة الله ورضوانه بفضل ما كان يتميز به طيب الله ثراه من حكمة وبعد نظر وقدرة على استباق الاحداث والتطورات وما كان الله يلهمه اياه من رشد الرهان على عبقرية شعبه الوفي والثقة في قدرته على مقارعة التحديات.
واننا لمصممون العزم على استثمار ما تم انجازه في هذا المسار الارادي مقتفين اثر والدنا المنعم ومستنيرين بنفس الخصال السامية ومهتدين بأقوم التوجهات غايتنا الرقي بشروط أدائنا الوطني إلى المستويات المرجعية المعتمدة في تدبير الاقتصاديات الاوفر ضمانا للتنمية المستديمة والاكثر تيسيرا لفرص الشغل والاجدى تحصينا من مخاطر تفاحش الفوارق بين الطبقات والجهات والاجيال ادراكا من جلالتنا ان مملكتنا قادرة على تعبئة ما تمت مراكمته من طاقات انتاجية وادوات موءسساتية وكفاءات علمية وخبرات فنية وشراكات دولية توءهلها لمواكبة مقاولاتنا في تحديها لما تفرضه عليها المنافسة الخارجية من اختبار مصيري لمستوى قدرتها على الاتقان والجودة وتصديها للمعارك والمباريات واصرارها على السبق والفوز اعتمادا على ما هي خليقة بالتحلي به من روح الابتكار والمبادرة وسرعة التأقلم مع المتغيرات ومرونة التعامل مع المستجدات.
على اننا ايتها السيدات والسادة لا نستهين والحالة هذه بما تفرضه على المقاولة ظروف اكتساح الاسواق الدولية وشروط الصمود امام انهيار الحمائيات الجمركية من اكراهات. كما لا يخفى عن بال جلالتنا ما يحف بسبل تأهيل جهازنا الانتاجي من جراء ذلك وبالاخص في قطاع المقاولات الصغرى والمتوسطة من عقبات وتحديات غير أننا على يقين من ان مسلسل العولمة يفسح أيضا امام مملكتنا مجالات وافاقا واعدة لن تلبث ان تجني ثمارها اذا توفقت في تعبئة طاقاتها وتسخير مقدراتها المادية والبشرية سواء في الادارة والقطاع الخاص او في الموءسسات التشريعية والمهنية والنقابية لمواكبة مسلسل التغيير الضروري بما هو مطلوب من الجميع من اقدام ونكران ذات وتشبث بالقيم الوطنية والثقة بالنفس.
واننا في هذا الاطار لننتظر من حكومتنا المضي في الجهد التأهيلي للاطار الموءسساتي لاقتصادنا والحرص على رفع مستوى ادائه العام من خلال الحفاظ على التوازنات الكبرى للاقتصاد الوطني والتخطيط لمسايرة ما تتوخى بلوغه الاقتصاديات التي نحن مقبلون على التعامل معها في اطار التبادل الحر من معايير وموءشرات في برامجها واداء تدبيرها. كما ننتظر منها ان تعمل على تبسيط المساطر الادارية والحد من تشعباتها والقضاء على ما يعتري بعضها من اختلالات لاستئصال ما يشكل بالنسبة للمستثمرين وفي قطاع المقاولات الصغرى والمتوسطة اكثر من غيره عوائق تثبط ارادات الانجاز والابتكار ومتاعب تثني العزائم عن الاقدام والمبادرة وسنسهر لذات الغاية على ان تتوفر بلادنا في اقرب الاجال على ميثاق وطني يوءسس لاستراتيجية تعاقدية تتحدد على أرضيتها التزامات وحقوق مختلف الشركاء المعنيين بقطاع المقاولات الصغرى والمتوسطة وتتضح سبل تيسيرهم لتأهيله وتنميته بمراعاة خصوصيات حاجياته وشروط اشتغاله.
ايتها السيدات والسادة
ان بلوغ التنمية المستديمة لقطاع المقاولات الصغرى والمتوسطة بالمضامين التي نرومها يبقى رهينا بمدى وعي كل الفاعلين الاقتصاديين بحيوية الدور المنوط بهذا القطاع والتزامهم بما يتطلب ذلك من حرص على تكييف مناهج عملهم وصيغ ممارساتهم باتجاه التفاعل والتجاوب والتكامل مع مقتضيات استراتيجية الميثاق الوطني بعد ان يتم التوافق حولها واعتمادها حسب المساطر الدستورية التي تضفي عليها قوة القانون والالزام.
ولن يفوتنا في هذا الاطار أن نتوجه إلى الموءسسات التمويلية لنجدد حثنا اياها على المزيد من الاهتمام بهذا القطاع وذلك بالسهر على ملاءمة مناهج تقييمها لجدوى مشاريعه واحداث أجهزة الاستقبال واليات التمويل الكفيلة بتيسير توفره على الموارد الضرورية لاستثماراته وتشغيله عن طريق تعبئة مثلى للقروض الاجنبية المعتمدة له وشحذ أوسع للادخار الوطني لفائدته دونما مساس بطبيعة الحال بمتطلبات الحفاظ على اسباب مناعة نظامنا المالي والمصرفي وصلابة مقومات مصداقيته الوطنية والدولية.
ومن نافلة القول أن تقوية نسيج المقاولات الصغرى والمتوسطة في مملكتنا تتوقف على عناية مختلف مستويات الادارة الترابية والجماعات المحلية بهذا القطاع وعلى مدى التزامها الفعلي والمستديم بدعمه وتيسير السبل له الامر الذي يقتضي باعتبار اهمية دورها ان يصبح مستوى مجهودها في هذا المضمار عنصرا وازنا في تقييمنا لمستوى ادائها ومدى استجابتها لما تتوخاه جلالتنا من تحول عميق في نوعية ممارساتها ومنهجية تدبيرها وطبيعة تعاملها.
على أننا نود فوق هذا وذاك أن نتوجه إلى المقاولات الصغرى والمتوسطة ذاتها منتظرين منها القيام بالمجهودات الذاتية الضرورية لتنظيم صفوفها والاندماج في شبكات تحالفات متنوعة الاهداف والشركاء حتى تقوم بدورها كاملا فيما نعوله عليها من مهام خلق الثروات ومضاعفة فرص الشغل واشاعة روح الابتكار والمبادرة اعتمادا من جلالتنا على اسهامها النشيط والمثمر في تقدم واستقرار مجتمعنا وتفعيلها لقيمه الاصيلة الداعية إلى الاتقان في العمل والصدق في المعاملات والتضامن المبني في السراء والضراء على العدل والانصاف.
ايتها السيدات والسادة
اننا نوءمن ان كل مقاربة استراتيجية لتقوية جهازنا الانتاجي وتكثيف نسيجه والرفع من تنافسيته ينبغي ان تكون شاملة. فالتنمية لا يمكن ان تختزل في تقنيات او موارد مالية او توفير اسواق تلقى مسوءوليتها على عاتق الدولة او فاعل بعينه في ميدان الاقتصاد أوالمجتمع. بل هي الرقي بالفعل الانتاجي إلى مهمة الالتزام المسوءول والمتجرد من أجل تشييد استقرار الوطن ومناعته على ارضية النمو الاقتصادي والتضامن الاجتماعي والانسجام الثقافي والروحي وهي بهذا المضمون مسلسل تعبئة تتضافر في اطاره جهود كل القوى الحية في البلاد لتحديث مناخ الانتاج وبلوغ توافق الروءى والمطامح المشروعة لكل الفرقاء على اسس قوامها العمل النزيه على ترجيح مصلحة المقاولة بصفتها الاداة المشتركة لخلق الثروة والتشغيل والحرص الجماعي على الانصاف في توزيع الدخل ومردود الكد والجهد باعتبار ان ذلك وسيلة مثلى للتحفيز على الانتاجية ودعم التعامل الحضاري في مجتمع ينشد السلام والاخوة بين مكوناته ويطمح إلى توفير العيش الكريم لاعضائه في دائرة احترام دولي لشخصيته داخل وخارج حدوده.
وفقكم الله واعانكم وجعل السداد حليفكم .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".